جاء عنوان مقالتي متضمناً مصطلح الفن وهو مشتق من فنَّ فُلانٌ فَنًّاً:كثُر تفنُّنه في الأُمور,وتفَنَّن الشيءُ: تنوّعت فنونه.
أمّا وصف الكوفة بمدينة الفن فإنه يتطلب الحديث عنها أولاً فقد تأسست مدينة الكوفة في القرن الأول الهجري وأصبحت عاصمة للإسلام في خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقد حفلت بالأحداث لأنّها عاصمة للعلم والأدب ومحطة للعلماء والأدباء والشعراء.
كان للكوفة كما كان في غيرها من الأمصار الإسلامية مراكز ساعدت على نشر الثقافة ونموها وازدهارها فقهية كانت أم لغوية أم أدبية لذا فأنّها تعدُّ أحد المراكز الأساسية للثقافة الإسلامية ويرجع ذلك إلى عوامل عدة منها: كان في الكوفة تيارات حضارية متعددة ولغات مختلفة تتلاقى فيها كالآرامية والفارسية والعربية القديمة إذ تأثر أهلها بهذه التيارات الحضارية والثقافية التي تدافعت فيها ,وتأثير الموالي في حياة الكوفة العقلية وتأثير الحياة السياسية والتبادل الثقافي بين الكوفة والبصرة بصورتيه السلبية والايجابية فالسلبية من طريق المنافسات الثقافية والخصومات العقلية ,أمّا الايجابية فمن طريق الأخذ والعطاء .
حين ننظر في الدور الذي ساهمت به الكوفة على المستوى الثقافي فإنّنا نرجع ذلك إلى أبرز الفنون التي ظهرت في الميادين المختلفة من فقه، وفلسفة ،وحكمة ،وأدب ونحو، وحديث وقراءة، وتفسير ،ورواية للشعر، والأخبار وكانت على النحو الآتي :
- شغل أهل الكوفة منذ تأسيسها بالقرآن الكريم وقراءاته وإقراءه وتفسيره فكانت مدرسة لعلوم القرآن ومن ابرز شيوخها الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فقد كانوا يقرئون القرآن للناس ويفسرون آياته وكان الناس حولهم كدوي النحل في جامع الكوفة .
- أمّا علم الحديث فقد أرسى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قواعده في الكوفة ,وكان يحدّث بالحديث الصحيح، ويكشف زيف الكذابين وكذلك أبان بن تغلب والأعمش المحدّث الكوفي الكبير ,وسفيان الثوري وعبيد الله بن موسى العبسي الكوفي وأبو العباس بن عقدة واسماعيل بن منصور السلوي ،وتليد بن سليمان المحاربي ،والحسين بن الحسن الفزاري ،وخالد بن مخلد القطواني.
- -كانت الكوفة أكثر اهتماماً وأوسع نشاطاً في رواية الشعر والأخبار وسبب ذلك أنّ العناصر الأجنبية في البصرة كانت أكثر اختلاطاً وتنوعاً لموقعها الجغرافي على ساحل البحر الأمر الذي هيأها لتكون مرفأ للسفن التجارية القادمة من بلاد العالم المختلفة وهذا يجعلها دائماً على استعداد لاستقبال أخلاط متعددة من الأجانب ومن هنا كانت الحاجة إلى تعلّم اللغة العربية والنحو أقوى في البصرة منها في الكوفة التي كانت ثغراً من ثغور البادية لا تفد إليها السفن الأجنبية وإنّما تفد إليها القوافل العربية فضلاً عن الارستقراطية البدوية التي ظلت مسيطرة على الحياة الاجتماعية في الكوفة مدة طويلة إذ لعبت العصبيات القبلية الدور الكبير في حياة المجتمع الكوفي لذا اهتمت الكوفة برواية الشعر والأخبار ؛لأنّها تراث هذه القبائل وماضيها المجيد الذي تعتز به ومن ابرز علماء الكوفة الرؤاسي أستاذ مدرسة الكوفة النحوية ,والكسائي ,والفراء الذي جاء من بعده تلاميذه وهم : أبو عبد الله الطوّال ,وسلمة بن عاصم ومحمد بن قادم وابن الاعرابي وابن السكيت وثعلب .
- كان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أستاذ الفقهاء والمجتهدين ورائد الحكمة والفلسفة في الكوفة التي أسّس فيه مدرسته العلمية إذ تتلمذ عليه أعلام المسلمين وروى عنه فقهاء الأمة وهم :أبو حنيفة النعمان بن ثابت ,ومالك بن انس ,وشعبة بن الحجاج ,وجابر بن حيان ,والمفضل بن عمر ,والإمام الشافعي ,والحسن بن صالح ,واحمد بن حنبل وغيرهم .
- عرفت الكوفة المناظرات الكلامية ،والمساجلات الفلسفية من أبرزها مناظرة محمد بن عليّ بن النعمان البجلي الكوفي مع الخوارج ,ومناظرة أبي بكر الهذلي البصري مع ابن عياش الكوفي حول بعض المسائل العقائدية .
ومن هنا كانت هذه الفنون على اختلاف أنواعها صورة للازدهار الفني والفكري في الكوفة ونهضة في نواحي العلم المختلفة فكانت الكوفة بحق جديرة بأن تسمّى مدينة الفن إذ حفظت نماذج الفن العربي .
وبذلك قادت الكوفة المجتمع الإسلامي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) وتسلّمت مدينة النجف الاشرف مسؤولية القيادة العلمية في عصريها الإسلامي والحديث .
أ.م.د. رفاه عبد الحسين مهدي الفتلاوي – جامعة كربلاء /كلية العلوم الإسلامية