يبدو أننا الآن شهود لحظة تاريخية فريدة. قلت ذلك في نفسي، وأنا أرقب أولادي
ينجزون واجباتهم الدراسية، ويرسلونها إلى أساتذتهم، بواسطة أجهزة ذكية بحجم
الكف، بعدما صار التعليم الإلكتروني واقعاً لا بديل عنه، إثر اجتياح وباء كورنا
لعالمنا بلا رحمة. أتذكر السنوات الطويلة التي قضيتها في الدراسة، والتي كانت
ـ باستثناء مرحلة الدراسات العليا- تستند لوسائل تقليدية. أذهب إلى ما هو أبعد منذ
ذلك التاريخ بكثير، فأتخيل ملامح ذلك التلميذ الذي طلب من والدته أن تعد له وجبة
طعام كي يتناولها في المدرسة، وترجاها أن تسرع، ليصل إلى مدرسته في الوقت
المناسب. ولكن، ما الجديد في الأمر، ما دام كثير من الطلبة يفعلون ذلك باستمرار في كل عصر؟
والحق، أنني لا أتحدث هنا عن أي تلميذ، وإنما عن التلميذ الأول، الذي عاش قبل
الألف الثالث للميلاد, هنا؛ فوق أديم بلاد ما بين النهرين التي تأسست فيها قواعد
الكتابة, ولقد قدر لحكايته المكتوبة فوق رقيم طيني أن تصلنا سالمة، وأن يُعثر
عليها وتحظى بالترجمة والدراسة، بجهود علماء كبار أدركوا سرّ عظمة الحضارة
السومرية. ولعل في مقدمة من يمكن الاستشهاد بهم هنا هو عالم السومريات الأكثر
شهرة (صموئيل نوح كريمر).
ينقل لنا (كريمر) في كتابه – صغير الحجم كبير الفائدة – (هنا بدأ التاريخ. طبعة
بغداد، بترجمة ناجية المراني)، لا بقية تفاصيل اليوم الدراسي في الحكاية الطريفة
المتقدمة، وكيف كانت زيارة الأستاذ إلى بيت التلميذ للالتقاء بوالديه فحسب، بل
معلومات غنية أيضاً عن طبيعة نظام التعليم السومري، حيث نشأت أولى المدارس،
قبل خمسة آلاف عام، ولعل من لطيف ما أورده أيضأً أن مدير المدرسة كان يلقب
ب (أبي المدرسة)، والمدرس ب (الأخ الكبير)، أما التلميذ فكان يسمى (ابن
المدرسة(.
و تبقى احالات هذه الدوال السيمائية المتمثلة في التسمية بحاجة لمعرفة السياق الذي
ولدت فيه، لنفهم إن كانت مصممة في الأساس لجعل فضاء التعلم سهلاً ومسؤولاً
في آن واحد، يذَّكّر بالألفة، وبالأجواء الحميمية التي يشيعها جو الأسرة الواحدة، أم
كانت منبثقة من روح الثقافة المجتمعية ذات الطابع الأبوي (patriarchal), وإن كان الاحتمال الثاني لا يلغي الأول بالضرورة.
ومهما يكن من أمر فإن ما يستدعي الانتباه حقاً، يتمثل أيضاً فيما ينقله كريمر عن
رغبة الأسلاف بتطوير أساليب التعلم، يقول: (إن أجدادنا كانوا يفكرون بطرق التدريس منذ الألف الثالث قبل الميلاد….وإن عدد الذين مارسوا فن الكتابة آنذاك يزيد على الآلاف. نفسه :8ـ9).
وعلى الرغم من أن النهر قد جرت فيه مياه كثيرة بعد ذلك العهد، لكننا كنا بحاجة
إلى أن ندشن الألفية الجديدة لنشهد تحولاً غير مسبوق في الوسائط التعليمية، تلك
التي كانت في البدء لوحاً طينياً (رقيماً)، يقوم المدرس (الأخ الكبير) بمهمة اعداده (ينظر:نفسه:11ـ12) ثم أخذت و لقرون طويلة شكل الكتاب الورقي، إلى أن
صارت اليوم متمثلة بوسائط ذكية تفوق غيرها في سرعة ومرونة الاستخدام، بما توفره من إمكانات خزن واسترجاع لمعلومات واسعة بسرعة فائقة، مع ما يتصل بها من صور ورسوم و جداول إحصائية، وملفات صوتية وفيديوهات، فضلاً عن إمكانية إنشاء صفوف تعليمية تامة بصيغة إلكترونية، وكل ذلك بتكلفة مادية يسيرة. وإن كانت بعض تلك الوسائط الحديثة, مثل الأجهزة اللوحية الذكية لا تزال في دائرة التسمية ذاتها (tablets).
(العرب والتعليم الإلكتروني)
و نحن هنا بطبيعة الحال لا نسعى لتقديم دراسة جدوى تكشف عن مزايا التعليم
الإلكتروني، الذي يعتمد على تلك الوسائط الذكية، لكثرة ما كتب في الموضوع طيلة
الأشهر الماضية التي أعقبت ظهور وباء كورونا، وبدء تطبيق إجراءات حظر
التجوال في كثير من دول العالم، لكننا نريد التنبيه إلى أن طبيعة التحولات – على
نحو عام – تستدعي دراسات جادة وأفكاراً ذات طبيعة استراتيجية، وهي أكثر ما
تكون كذلك حين يتعلق الأمر بالنظام التعليمي، فهذا الأخير غالباً ما يبقى محافظاً
على صورته الأولى ذاتها لعقود طويلة، لأنه ينبع بالإساس من فلسفة الدولة التي
تتبناه، ويتطلب إجراء التعديلات فيه مساهمة خبراء متخصصين قد يستمر نقاشهم
لفترة طويلة قبل التوصل للصيغة المنشودة، ثم سنكون بانتظار سنوات طويلة
أخرى، ليبدأ عطاء الجيل الجديد، أي الجيل الذي بدأ رحلته العلمية بنظام تعليمي تمت مراجعته واصلاحه, من مرحلة رياض الأطفال حتى آخر سنة جامعية.
و بالرغم من ذلك، فقد نجحت دول عديدة في العالم بتغيير نظامها التعليمي، وجعله
أكثر عصرية، واستجابة لروح الحداثة ومتطلباتها، فمع صعوبة مهمة مثل هذه إلا
أن الاستمرار بنظام تعليمي أثبت فشله ستكون تكلفته أكثر من نفعه بقدر كبير. و
لكن، وفي مقابل ما تقدم، فقد ظل نظام التعليم في بريطانيا على سبيل المثال
محافظا على أصوله التأسيسية، تماماً مثل ما هو حال الدستور البريطاني، من غير
أن يعني ذلك بالضرورة عجز الاثنين عن مواكبة التحديات التي تفرضها
المستجدات الكبيرة الراهنة، وإيقاعها المتسارع بصخب، لأن كلاً منهما ( النظام
التعليمي و الدستور) يكتفي بترسيم الخطوط الأساسية، ثم يشرع مساحة واسعة تتيح
الحرية للابتكار، وللإضافة الخلاقة التي يمكن أن يتم القبول بها، واعتمادها
بأريحية، حتى وإن كانت صادرة من أولئك الذين هم في أدنى درجات السلم
الوظيفي، مثلما نصطلح عليهم في عالمنا العربي، ما دامت تسهم فعلاً بالتطور نحو
الأفضل. وكنتيجة لذلك، لن يكون أمراً مثيراً للاستغراب إن عرفنا أن بريطانيا، و
معها اليابان، حازتا قصب السبق في اعتماد التعليم الإلكتروني، وراح منسوب ذلك
الاعتماد الذي بدأ منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي يتطور، و يؤتي ثماره شيئاً
فشيئاً، وحينما بدأ وباء كورونا يجتاح العالم دولة فدولة، ويغير الأسس و
القواعد المتبعة، كان ثمة الملايين من الطلبة في البلدين -في مختلف المراحل
التعليمية- يتلقون في الأساس تعليماً إلكترونيا.
أما بصدد نظم التعليم العربية فالحال مختلف تماماً، فباستثناء محاولات بسيطة و محدودة, كان الاجتياح الكبير لفايروس كورونا هو السبب الرئيس الذي دفع بأغلب وزارات التربية والتعليم للتعاطي مع التعليم الإلكتروني، لا بوصفة خطوة للأمام، تم التخطيط لبلوغها مسبقاً، بل لأنه الخيار الوحيد الذي يجنبها خيارات أخرى ذات
تكلفة باهظة، مثل إعادة العام الدراسي، وما ينتجه ذلك من صعوبات فنية وإدارية لا طاقة لأحد بمواجهتها في العام القادم، لا سيما في ظل غياب مؤشرات توكد إمكانية تراجع الوباء.
ومع إيماننا بأن الظروف الطارئة تستدعي اتخاذ إجراءات طارئة، وأن (ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه) لكن ليس ثمة شك أيضاً في أن من بديهيات ذلك – شئنا أم أبينا –
خضوع مسار النظام التربوي العربي لما خضع له المسار العام للدول العربية, أي تكتيك الخروج بأقل الخسائر، والعمل بالممكن والمتاح، والاقتناع بنتائج تتمثل بامتلاك الطلبة لنسبة وإن كانت بسيطة من مخرجات التعلم قياساً، وهوما يتجلى أيضاً في قرارات أخرى اتخذتها بعض المؤسسات التربوية العربية، كتدابير احترازية تمنع انتشار الوباء، كغلق المدارس ومعاهد التعليم لفترة محددة، وصولاً إلى قرار إنهاء العام الدراسي بالكامل، لا سيما في الدراستين الابتدائية و الثانوية (باستثناء المرحلة المنتهية من هذه الأخيرة)، وذلك بإلغاء الامتحانات النهائية، والاكتفاء بمعدل اختبار الفصل الأول، ونصف السنة الدراسية، مثلما حصل في كثير من الدول العربية، ومنها العراق، والمملكة العربية السعودية والإمارات وعمان، مع أن ذلك لا يرضي طموح أحد، إذ أن نظريات التربية تؤكد على الطابع الهرمي لنواتج التعلم، بمعنى أن اكتساب الطالب المتعلم لمهارة جديدة إنما يتوقف في حقيقة الأمر على تمكنه من حيازة و استيعاب مهارات سابقة، سواء أكانت في المرحلة الدراسية الواحدة نفسها عبر فصولها، أم في المراحل التي سبقتها. ولعل أول ما يتعين علمه قبل بدء العام الدراسي القادم هو أن تقوم المؤسسات التعليمية العربية بمراجعة حقيقية وجادة,هدفها تقييم تجربة التعليم الإلكتروني غير المخطط لها, وأن لا تمر كحال سابقاتها مرور الكرام.
وخلافاً لحكاية ذلك الفتى السومري، فإن التلامذة اليوم لن يطلبوا من أمهاتهم
الإسراع في إعداد طعامهم ليذهبوا إلى المدرسة مبكرين، فهم لن يخرجوا من بيوتهم
للذهاب إليها أصلاً, ما دام وباء كورونا يواصل انتشاره، وبدلاً عن ذلك ستقوم هي
بزيارتهم في بيوتهم، بمديرها ومعلميها وكتبها وواجباتها، وربما سيكون قدح الشاي أو المرطبات غير بعيد عنهم وهو يؤدون امتحاناتهم. لكن ما يتوجب علينا فهمه أن
التطور الهائل في الوسائط الحديثة للتعلم، يتطلب أن توفر مؤسساتنا التربوية المعنية
الدربة والمهارة، للتلاميذ وللأساتذة معاً، وهو ما تأخرنا كثيراً في إنجازه، إلى أن
داهمنا الهجوم المفاجئ للوباء. وفضلاً عن ذلك كله فالتعليم الإلكتروني بوسائطه
الذكية لا يمثل المسألة كلها، إذ يبقى المنهج نفسه، و يبقى الأستاذ المدرس، ويبقى
التلامذة أيضاً، ولعل من أبجديات علم التربية، أن التعليم ليس سوى نتاج تفاعل سليم بين تلك العناصر التي يفترض أن يكون كل منها مؤهلاً بجدارة.
ومهما يكن من أمر، فإن وسائط التعلم الذكية الحديثة لن تنفي الحكمة القديمة: (من
جدّ وجد)، فأسلافنا الذين لم تتح لهم الفرصة لامتلاك ما يتوفر لنا اليوم من امكانات, جعلوا من الطين كتاباً, سطروا فيه بأقلام من قصب علوم الرياضيات والفلك والآداب و المعارف والفنون, ونجحوا بكل جدارة في بناء حضارة استثنائية, أما السر في ذلك النجاح الكبير فهو راجع لامتلاكهم ما هو أكثر أهمية من الوسائط و التقنيات، وما يسبقها في سلّم الأولويات, وأقصد به الحرص، والرغبة الجدية بالتعلم, والشغف بالمعرفة, أساتذة و تلامذة, ومن هنا فقط يبدأ الطريق المعبد لأي مشروع يراد له النجاح. ومن الطبيعي أن يكون وراء ذلك كله مؤسسات حقيقية، تعتمد الكفاءة و الخبرة، و تتميز بالمهارة الإدارية، وبالتفكير الاستراتيجي الذي يحسب حساب ما يمكن أن تأتي به حوادث الأيام. ولعمري أنها قد أتتنا بما لم يكن في حسبان أحد.
عباس عبيد / كلية التربية للعلوم الانسانية / قسم اللغة العربية