لا جدال في أن الثنائية اللغوية ظاهرة طبيعية وموجودة في كثير من اللغات ومنها العربية، وهي تعني وجود مستويين فيها كما هو معلوم: مستوى اللغة الفصحى، ومستوى العامية أو اللهجات المحلية لكل بلد، حيث يكون التباين في بعض المظاهر الصوتية والمعجمية والأسلوبية. إلا إن ما ينبغي الجدل فيه وحوله هو مسألة التعليم بهذه اللهجات، التي سنجد أنفسنا – إذا ما استمر الحال على ما هو عليه من دون وضع ضوابط – معلمين ومتعلمين أمام إكراهات متعددة منها أننا أمام شيوع للهجة العامية, المحكومة باللا استقار, وبظرف المكان والتفاوتات الاجتماعية والثقافية، كما أنها تفتقر إلى نظام كتابي خاص بها، ما يجعلها عاجزة عن تنمية المهارة الكتابية التي تعد من أولويات المؤسسة التعليمية, لا سيما في قسم اللغة العربية الذي يفترض أن يكون متخصصاً باللغة العربية وآدابها, وإن الاهتمام بها والمحافظة عليها بوصفها لغة للتعليم من أولى أولوياته، وعليه لا يمكننا تصنيف العامية لغة حية قابلة للاستمرار في التعلم بها, وإن اتسمت بأنها لغة حياة وتعامل يومي بين الناس.
لا أزعم أن الحديث عن هذا الموضوع جديد تماماً, فلطالما كان مادة نقاش مفتوح وعقيم في الوقت نفسه, ولا يخرج إلا بوضع القائمين على قطاع التعليم أمام خيارين عليهم الحسم فيهما وهو أما الاعتراف بهذه الظاهرة، وأما تكريس وجودها بالتخلي الفعلي عن العربية الفصحى, وهو ما لا يمكن لاعتبارات كثيرة.
لقد أعاد ما يعرف بالتعليم الالكتروني في العراق موضوع استعمال اللهجة العامية في التدريس الى الواجهة مجدداً, متخذاً مجيئه هذه المرة طابعاً سلساً ومقنناً، إذ لم يأتِ من خلال دعوة مشبوهة الى استعمال اللغة (الدارجة) كالتي بدأت في المشرق العربي في القرن التاسع عشر، والتي كانت ترمي الى القضاء على اللغة العربية بإبعادها عن التعليم والادارة وسائر المرافق الحيوية الأخرى، أو (العامية) التي جاءت كتحصيل حاصل بسبب فرض لغات أجنبية بوصفه جزءاً من سياسات استعمارية كالتتريك والفرنسة اُريد منها جعل العربية الفصحى لغة ثانية ومهمشة، مدركين أن العامية ليست لغة جامعة لها نحوها وصرفها وأن العربية الفصحى وحدها قادرة على منافسة اللغات الأجنبية ومسألة تهميش دورها في حياة المجتمع لا سيما طلبة الجامعات كفيل بتعريض لغة القران الكريم لأخطار حقيقية, تطال الهوية العربية ذاتها, ولا أحد يريد جعل لغته التي يعتز بها مجرد إرشيف للنفائس التاريخية والتراثية.
وما يؤسف له أن لا ينتبه كثير من التدريسيين والمحسوبين على المؤسسات الثقافية إلى خطورة ذلك، وأن لا يتصدوا للحفاظ على اللغة كما تصدى أسلافهم من العلماء والشعراء والكتاب، فعلاوة على اصرارهم على مزاولة انشطتهم ومحاضراتهم بالاعتماد على ايصال المعلومة بوساطة الوسائل الالكترونية السمعية والبصرية باللهجة العامية، انقطع الطالب عن أداء أي نشاط شفوي أو كتابي للغة الفصحى، مما كان يطلب من الطالب لكشف مهارته في هذا المجال كتحرير مقال أو ما يسمى بالتعبير أو الانشاء, أو الاجابة عن الأسئلة اليومية أو الفصلية أو النهائية التي يُكشف من خلالها عن جانب كبير من عناصر لغتنا كالأسلوب والاملاء والنحو, فضلاً عن جمال الخط والمعرفة بعلامات الترقيم، والتي تتوج باعتقادي بممارسة ذلك كله من خلال بحث التخرج بشكله الحقيقي، وليس المستلّ من المواقع الإلكترونية، وهذا ما لا يوفره التعليم الإلكتروني للطالب مما يضع اللغة أمام منزلق حقيقي وخطير.
واذا ما عُدنا لدراسة الموضوع ميدانياً فسيُكشفُ النقابُ عن حجم التفريط تجاه العربية الفصحى, ربما بسَبِب التغاضي عن الاسراع في وضع حلول وبرامج تهدفُ إلى قطع الطريق عن الاستمرار في الآثار غير المرغوبة المصاحبة للتعليم الالكتروني.
لقد مارس التدريسيون دورهم في التعليم الإلكتروني وهو جزء مما تَطلّبته المرحلة التي فرضت أن يكون التعليم عن بعد وبدأ الطلبة يحاورون اساتذتهم عن طريق الرسائل الإلكترونية فكانت على الرغم من قصرها الّا أنها اعانت على كشف الهوّة السحيقة للطالب, وقد ظهر ذلك في الاملاء والأسلوب واستعمال المفردات والمستوى اللغوي والنحوي, مما لم يكن متضحاً على نحو جلي. إنّ الطالب وهو في مرحلة تعدّ من أهم مراحل نضجه والتهيؤ لإغناء ثقافته وبناء شخصيته يحتاج إلى وعي معرفي لتقبّل موروثه اللغوي, بما فيه من مميزات اللغة المتمثلة في الفصاحة والجزالة وسلامة النحو والاملاء, أي ما كان ذات يوم صنعة ومهارة يتبارى الكتّاب في عرض أفكارهم. مما يقتضي منا الحذر, لكي لا تتسلل اللهجة العامية في ثنايا المناخ الجديد الذي بدأ مع تجربة التعليم الإلكتروني.
وفي أعقاب ما تقدم ونتيجة لهذا النوع من التعليم فقد خسر طلبتُنا في المراحل المنتهية جزءاً مهماً من الأنشطة التي كانت تعين على كشف مهاراتهم, وفرصة في تقويم المستوى الذين انتهى إليه كلٌ منهم، أعني بذلك حرمانهم من ممارسة التطبيق الذي درج عليه أسلافُهم في المدارس الثانوية والمتوسطة.
وفي الختام أقول إن أهمية التعبير والاهتمام باللغة الفصحى دليلٌ على حبّنا للغتنا القومية وشغفنا بها ومظهرٌ من مظاهر الحسّ القومي الهادف إلى جمع الكلمة على توحيد الأمة المؤدي الى توحيد شعورها وعواطفها, وهو واجبٌ وطني وقومي, لأن الفائدة منها تتجاوز الفرد إلى المجتمع, وأن ثمرته هي المحافظة على تراثنا وهويتنا.
أ.م.د. سها صاحب القريشي
كلية التربية للعلوم الإنسانية