تَكْوِينُ الْمَجَالاَتِ النَّحْوِيَّةِ

الأستاذ الدكتور: حسن عبد الغني الأسدي
كلية التربية للعلوم الإنسانية/ جامعة كربلاء

يتعلّق جزء كبير من فهمنا لتكوّن الجملة في العربيّة عبر إحداث ربط بين عدد من المقولات (اسميّة وفعليّة) بعضها عاملة وأخرى معمولة؛ إذ يقوم المتكلّم أوّلاً باستدعاء بعض تلك المقولات من خزينه اللغويّ الذي يمثّله المعجم الذهنيّ، ثم يدرجها في النّظام النّسقيّ أو في الصّورة المنطقيّة للجملة العربية. إذ فنحن أمام أساس ذهنيّ لنظام الجملة العربيّة، متعاضد مع بعدٍ ربطيّ يجعل من الكلمة الأولى بمنزلة لبنة البناء الأساس(العامل) التي يقوم عليها لبنات أخرى فوقها (المعمولات).
الْكِفَايَةُ اللُّغَوِيَّةُ:
يقوم مفهوم الكفاية أو القدرة اللغويّة على تصوّر أنّ كلَّ إنسانٍ بالغ يتكلّم لغة ما قادرٌ في كلِّ لحظةٍ أنْ ينطق على نحوٍ تلقائيٍّ، أوْ أنْ يتلقّى ويفهم عدداً غير متناهٍ من الجُمل الّتي لم يسبق له أنْ سمع معظمَها أو نطقَ ببعضَها. إذن فالكفاية أو القدرة: هي المعرفة الضمنيّة باللغة التي تبدأ بالظّهور منذ الطّفولة مع أولى مراحل التكلّم. ويتكَامل النّظام النسقيّ العقلي عبر تراكم الخبرة، ويقوم هذا النظام في الذّهن ممثّلاً ببعدين هما: البعد النّسقي التركيبيّ، وهو الصّورة المنطقيّة للجمل في اللغة، والبعد الآخر المعجم الذّهنيّ الذي يضمّ كل مفردات اللّغة؛ ومع كلّ مفردة قائمة ذاتيّة من السّمات والخصائص الّتي تحدد علاقات هذه المفردة ببقية المفردات وبالتركيب..). وتكمن فاعليّة القدرة اللغويّة في توليد واستنباط كلّ العبارات أو الجمل الممكنة في الّلغة.
ويقوم النسق التركيبيّ على ثلاث ركائز: المستوى النحويّ، المستوى الصوتيّ، ثم المستوى الدلاليّ. ولا يقتصر المستوى التركيبيّ على الجملة، بل هو يتجاوز نحو كلّ العلاقات التي تدخل فيها المفردات بمستويات نسقيّة أو علائقيّة أوسع من الجملة هي المستوى النّصيّ والمستوى التّداوليّ.. حتى أن بعض الباحثين أطلق مصطلح (الكفاية التواصليّة) كما في دراسات النحو الوظيفيّ ليكشف بعداً آخر لانتظام الجملة وتحوّلاتها.
إنّ جانباً واسعاً من الأداء اللغويّ يمكن أن يسوّغ في إطار هذه الكفاية، وهذا الجانب يمكن أن يضمّ مجمل التّغييرات التّي يمارسها المتكلّم على النمط الأساسيّ لجملِه من حذف أو زيادة وتقديم أو تأخير أو بناء للمجهول أو الانتحاء نحو الأساليب المتنوعة الدّالّة على معان أخرى غير دلالاتها الإخباريّة الأساسيّة؛ بحسب ما يرغب المتكلّم مع مخاطبه ممّا يستوجبه مقام التخاطب أو الاعتبارات اللغوية المتفاعلة مع متطلبات التّواصل عموما.
فإذا كانت الكفاية اللغويّة ترسم خطوطاً للقدرة الذّهنية اللّغويّة (أو البناء التّحتيّ للغة) فإنّ الكفاءة التواصلية ترسم خطوط الأداء اللغويّ وطبائعه وما يحدث على ذلك النّظام من تغيير، فتكون هذه القدرة متمّمة للقدرة الكامنة.
إنّ مثل هذا التصوّر للقدرة عبر مستويي اللغة والكلام في بناء الجمل سيؤديّ بنا إلى فهم طبيعة انتحاء العربيّة في تكوين الجمل وامتدادها وما يظهر فيها من وظائف نحويّة وما لا يظهر، وما يطرأ على مواضع تلك الوظائف من تبدّل أو تغيير! هذا الفهم يؤدّي بنا إلى اقتراح نموذج جامع بين القدرتين ونعتقد أن نموذج خلق المجالات النحوية محقق لهذا الجمع.
تَكْوِينُ الْمَجَالاَتِ النَّحْوِيَّةِ:
الخلق في النّحوّ هو التكوين والإيجاد، وهو وظيفة المقولة الأولى في الجملة العربية وهي المقولة الأساس التي بها تترابط بقية المقولات.
تَكْوِينُ الْجُمْلَةِ وامْتِدَادِهَا:
الملاحظ في تكوين الجمل أنّ وجود لفظة ما في الموقع الأول في الجملة ينتج عنه وجود موقع ثانٍ في أقل تقدير، ويصلح أن تشغله كلمة تُناسب الكلمة التي شغلت الموقع الأول. ويعني ذلك أن وجود كلمة وموقع اقترن بوجود كلمة وموقع سابقين. وبهذا فإنّ ما كان ثانياً افتقر في وجوده لما كان سابقاً؛ فالكلمة الأولى اتّسمت بقدرة على تكوين محلّ تابع لها مع اختيار الكلمة المناسبة لتشغله. ويُعبّر عن هذه القدرة بـ(تكوين أو إفراغ مجالات نحويّة) هي مجالات الوظائف النّحوية الّتي تشغلها الأسماء في الجملة.
وتسلك الكلمة الأولى مسلك (العامل أو البنّاء) يبني الجملة، فبوجودها تكون بقيّة المجالات وبعدمها ستنعدم؛ ويؤدي هذا إلى القول بأنّ هذه الكلمة بموقعها هي العامل النحويّ الذي مهمته تكوين، وإنشاء الجملة عبر قدرته على العمل الذي هو إفراغ المجالات، أو خلقها لتشغلها الأسماء لأداء وظائف دلاليّة تتعلق بالكلمة الّتي تشغل موقع العامل النّحويّ الأوّل في الجملة؛ فكل كلمة: اسماً كانت أو فعلاً تستطيع أن تسلك المسلك السّابق إذا دخلت في الموضع الأول. على أنّ المسألة تشتمل على تّفصيلات ليس هنا محلها.
ويُعد العامل النّواة المولِّدة للجملة، وتختلف المجالات التي يولّدها العامل باختلاف موقعه بكونه العامل الرئيس أو بكونه عاملاً غير رئيس في الجملة، وباختلاف نوع المقولة التي يكون عليها أسميّة أو فعلية ثم تختلف بخصوصيات كل فعل أو اسم وما يشتمل عليه من السّمات التّي تميّزه دلاليّاً عن غيره؛ فإذا كان العامل فعلاً فهناك مجالات ما أُسند إلى الفعل وهو الفاعل، وظرف الفعل الزمانيّ والمكانيّ وكيفيّة وقوعه وسببه، وغيرها؛ أما إذا كان العامل اسماً فهناك مجالات للخبر وللظّرفين؛ إلاّ أنّ الملاحظ هنا كون الفعل أقوى العوامل لقدرته الواضحة على إنشاء مجالات عدّة تفوق قدرة أي عامل آخر، مع تفاوت في قوة الأفعال لتكوين مجالات الوظائف.
ومن المفيد الإشارة الى معيار يصاحب تكوين المجالات وهو معيار دلاليّ مرتبط بطبيعة المعلومات التّي تشتمل عليها الجملة وهو (المحتوى الدلالي للجملة). ويقوم على أنّه لابدّ لجملة ما أنْ تتركّب من نمطين من المعلومات، هما:
النّمط الأوّل: تمثّله المعلومة أو المعلومات المتواطأ عليها بين طرفيْ الخطاب (المتكلّم والمخاطب) بمعنى أن يكونا على علم سابق بها.
النّمط الثّاني: وتمثّله المعلومة أو المعلومات الجديدة، التي تنشأ الجملة لأجلها، وفيها تكمن الفائدة الّتي يسعى المتكلّم لإيصالها إلى المخاطب.
وتجدر الإشارة إلى أن النّظر إلى النّمطين من المعلومات يقوم عبر العلاقات النّحويّة الدّلاليّة بين المفردات لا من المفردات وحدها؛ لأنّ تلك المفردات كلّها معروفة لمتكلم اللغة( في معجمه الذهنيّ) على حين أنّ الشيء المجهول لديه هو ما يُحدثه المتكلم من علاقات بين المفردات، سواء أكانت علاقات أساسيّة أم علاقات فرعيّة.
ويمكننا أن نقدّم مخططا هيكليّاً للجملة العربيّة يُمثّل البنية الافتراضيّة الكبرى للجملة العربيّة. فكل جملة في العربيّة هي صدى لهذه البنية الافتراضيّة، وهي على النّحو الآتي:
الفعل+ [الفاعل] + [المفعول به1] + [المفعول به2] + [المفعول به 3] + [المفعول المطلق] + [المفعول فيه (ظرف الزمان)] + [المفعول فيه (ظرف المكان)] + [الحال] + [المفعول معه] + [المفعول لأجله] + [التمييز] +[المستثنى].
وعندنا في العربية النّمط الاسميّ الذي تتصدّره مقولة اسميّة، وهي مقولة لها آلية في العمل النحويّ مختلفة عن آلية عمل المقولة الفعليّة، فعملها مستند إلى ربط توافقي، وهو ربط أو استدعاء على المستوى الدّلالي تصبح المقولة الثانيّة (المبني عليه) خبراً تابعاً على جهة الوصف للمبتدأ..
ينبغي هنا التنويه على أنّ المقولات الاسميّة هي الّتي تشغل هذه الوظائف أو المعاني النّحويّة. وإذا دخلت مقولة فعليّة إلى هذه المجالات سلك مسلك التّأويل بالمقولة الإسميّة (المصدر المؤوّل أو الجملة الواقعة موقع المفرد) ليصحّ ذلك الدخول.
مَجَالاَتٌ ثَانَوِيَّةٌ:
من المجالات النّحويّة مجال المضاف إليه، وهو مجال فرعيّ(أو ثانويّ) مقترن بالاسم المضاف لا بالمقولة الأولى في الجملة، وهو مجال تابع لمجال اسميّ سبقه يظهر ليتمّ اسميّته ويتمّ وظيفته وهو في مورد استبدال مع التنوين أو أل التعريف.
وهناك مجالات في الجملة العربية تكون مجالات تابعة تشبه تبعيّتها تبعيّة المضاف إليه إلى المضاف لكنها مهتمّة ببيان حال من حالات الاسم لا من تمام وظيفته النّحويّة بل من جهة أوصافه وأنواعه ومشاركه وهي مجالات التوابع (النعت والتوكيد والبدل وعطف النسق). ويكون العامل في ذلك المقولة الاسمية السابقة.
الْمَجَالاَتُ والإِعْرَابُ:
الوظائف التي تشغلها المقولات الاسميّة في الجملة إمّا أن تكون في منزلة المرفوع ومجالاته محدودة جداً لا تتجاوز الفاعل والخبر، أمّا البقية فهي توابع وهي تشغل مجالات ثانوية في الجملة ومقترنة بمقولة الاسم التي تضاف إليها.
وإمّا أن تكون في مجالات المنصوبات (المفعولات) وهي المجالات التي تبرز حقيقة العمل النحويّ وفيها يظهر الثراء الدلاليّ الوظيفيّ للنّحو، وعبرها تُلبى إمكانيات المقولات الفعليّة واقترانات حدثها أو حركيّتها ببقية بالأزمان، والجهات، والمعاني الحافّة بالحدث.
ومن ناحية أخرى نتبيّن وظيفة المتكلم الفاعلة في عملية صياغة الجملة دلاليّاً عبر العلاقات النحوية التي يحثها بين المقولات، سواء في مستوى خلق المجالات أو في المستوى ربط المقولات دلاليّا إذ يعمد إلى إحداث طائفة من التحوّلات على بنية الجملة الأصل تظهر في الأداء كالتّقديم والتّأخير، والحذف، والاستفهام، والنفي، وغيرها. ولعل هذا المنحى يبيّن القدرة الإبداعيّة للمتكلّم في صياغة جمله، ويفتح المجال واسعاً للخروج بالجملة من إطارها الضيق الى الفضاء النصيّ. مع توظيف جانب مهم من القدرة الإبداعيّة الاجتماعيّة للغة فيما يُعرف باللغة المجازيّة، التي ينتقل فيها المتكلّم بالكلمات الى مستوى آخر من مستويات التعبير اللغويّ بإحداث تحوّل على المستوى الدلاليّ العام للجملة لا المستوى الدلاليّ للمفردات؛ ويندرج ذلك تحت مفهوم عامّ هو (التّوسّع)!
بقي أن ننوّه إلى أنّ حروف المعاني بسلوكها الرابط في الجملة، وهو ربط دلاليّ واضح لا تشغل مجالا مستقلا بل هي روابط أو توابع لبقية المجالات. وهي لا تكوّن مقولات مستقلة بل توابع للمقولتين الاسمية والفعليّة، ومن ذلك انتظام الحروف المصدريّة مع الأفعال، وأنّ مع معموليها لتشغل مجال مقولة اسمية.