أ.د. حسن عبد الغني الأسدي
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الإنسانيّة
لقد كان الخطاب الذي عقده التنويريّون، في القَرْنَين المُنصرمين، ومنهم الشّهيد الصّدر مع مجتمعاتِهم يَنْصبُّ على تفعيلِ قِيم الدّين الإسلاميّ، واعتباراته في الحياة، لذا أصبحتْ الأنَا الإسلاميّة في العصر الحديث بأمسّ الحاجة إلى أنْ تَطرق مفاهيمُها الأسماعَ بأدق الوسائل العلميّة؛ وبما يناسبها من مناهج ((..لأن الإسلام أصبح بحاجة إلى أن يعرض كنظرية مذهبية جاء بها الرسول محمد(ص) عن طريق الوحي، وذلك من أجل مواجهة النظريات المذهبية الأخرى، ومن أجل أن يتضح مدى صلاحيته لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة وصلته بتلك النظريات المذهبية. كما أن فهم الإسلام كنظرية عامة هو الذي ييسر لنا سبيل أن نتبناه نظاماً للحياة..)) (علوم القرآن:278)؛ ومن هنا يجب أنْ يُنظر إلى الدّين بوصفه مكمنَ القوة والعزّةِ للإنسانِ، فكانت محاولات إعادة النظر في طريقة فهم المنظرين الإسلاميّين نُصوصَه، ولاسيَّما القُرآن الكريم سبيلاً من سُبِل معاصرتِنا له، ومعاصرتِنا له تَعنِي صيَاغةَ حياتِنا عَلى وفقِ مُتطلبَاتِه.
ويبْدُو واضحاً أنّ المُشكِلات في العَالَم المُعاصِر أَضْحَتْ أكثرَ حُضُوراً فِي حياةِ الإنسانِ، ولهذا فآثارها أكثرُ بروزاً، وقدْ تَأَتَّى ذلك كما رآهُ آية الله العظمى محمد باقر الصّدر من: ((أن إحساسَ الإنسانِ المُعاصر بالمُشكلة الاجتمَاعِية أشدُّ من إحسَاسِه بها فِي أيِّ وقتٍ مَضى مِن أَدوار التَّاريخ القديم. فهُو الآن أكثرُ وَعياً لموقفهِ مِن المشكلة وأقوى تحسساً بتَعقيداتِها، لأنّ الإنسانَ الحديثَ أصبحَ يَعِي أنَّ المُشْكِلة مِن صنعِه. وأنَّ النِّظامَ الاجتماعِيَّ لا يُفرضُ عليه مِن أعلَى بالشَّكل اَّلذي تُفرَض عليهِ القوانينُ الطَّبيعيّة، الّتي تتحكَّم في علاقات الإنسانِ بالطبيعة. على العكس من الإنسان القديم الذي كان ينظر في كثير من الأحَايين إلى النّظام الاجتماعيّ وكأنّه قانونٌ طبيعيٌّ، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قدرة. فكما لا يستطيع أن يطور من قانون جاذبيةِ الأرضِ، كذلك لا يَستطيعُ أنْ يُغيِّر العِلاقاتِ الاجتماعيّةَ القائمةَ..[فـ]أصبحتْ المشكلةُ الاجتماعيّةُ تَعْكِسُ فِيه_ فِي الإنسَانِ الّذي يَعيشهَا فِكريّاً _مرارةً ثَوريّةً بَدَلاً مِن مرارةِ الاسْتِسَلام)) (المدرسة القرآنية: 13-14).
لقد كان توجُّهُ التَّنويريِّين نَحو جوانبَ الحياةِ الاجتماعيَّة مَساراً مع مساراتٍ أُخَرى لِتَفعيل الصِلَة مع النَّص المُقدَّس. فكانَ هذا المسار عند الصّدر أوَّلَ تطبيقاتِ لمنهج التّفسير المَوضوعيّ للقرآن الكريم، ولاسيَّما أنّه أدَار محاوره على عناصر المجتمع وعلاقتِها بعضِها ببعضٍ، وتجاوز بِها الصّفةَ الثُّلاثيَّة: [فعناصر المجتمع هي: الإنسان، والأرْض، والعلاقة (أي: الاستخلاف)] إلى صفةٍ رُباعيَّة بحضور عنصر رابعٍ تفترضه علاقة الاستخلاف لا يكون إلاّ بمستخلِف (وهو الله سبحانه وتعالى). لهذا سيكونُ الله حاضِراً في تِلكَ العَناصِر عبرَ اسْتحضَارِه بالعنصر الثالث.
وهذا العنصر الرابع يأتي بوصفه: ((مقوِّماً من المُقوِّمَات الأسَاسيَّة للعِلَاقة الاجتمَاعِيَّة علَى الرَّغْم مِن أنَّه خارجُ إطَارِ المجتمع))(المدرسة القرآنية:108) ولا يغيب أنّ ((هذه الصّيغة تَرتَبِط بوِجْهة نظرٍ معيّنةٍ نحو الحياةِ والكونِ.. بأنَّه لا سيِّدَ ولا مَالِكَ ولا إلَهَ لِلكَونِ ولِلْحيَاةِ إلاّ اللّهُ سبحانَهُ وتَعَالى؛ وإنّ دوْرَ الإنسانِ فِي مُمَارسةِ حَيَاتِه إنَّمَا هُو دورُ الاسْتِخلافِ والاسْتِئمَامِ، وأيُّ علاقة تنشأُ بينَ الإنْسَانِ والطَّبيعَة، فهي فِي جَوهرِها لَيْسَتْ علاقة مالكٍ بمَملوكٍ، وإنَّما هي علاقةُ أمينٍ علَى أمانةٍ اُستؤمن عليها؛ وأي علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان مهما كان المركز الاجتماعي لهذا أو لذاك فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان أو ذاك مؤديا لواجبه بهذه الخلافة))(المدرسة القرآنية :108).
إنّ المتأمل في توجهات الصّدر نحو إبراز عناصر المجتمع التي تمّ رصدها قرآنيّاً؛ يراها مندرِجةً ضمن المسار الذي خطّه الصّدر لنفسه ولفكره، وهو مشروعه المعرفيّ الكبير. فعنوانات كتبه تقوم على إعادة الاعتبار للأنا الإسلاميّة في السّاحة الفكريّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، في وقت تنازع المسلمين المدُّ الشيوعيّ، والتوجهُ الرأسماليّ؛ وكان لأصحاب تلك التّوجهات أن يأخذوا بزمام المبادرة للاستحواذ على السّلطة؛ ومن ثمّ الاستحواذ على الثّروات والشّعوب، التي كانت مستغرِقةً في حلمِ الخروج من هيمنة المحتلين فوقعت بأيدي الفرعونيين.
ففي مثل تلك الظّروف التّي مرت على الأمة الإسلاميّة، ولا سيّما الشّعب العراقيّ برز توجّه الصدر نحو إعادة الثقة بالنفس، والقدرة على إدارة هذا الملف، ومعرفة مكامنِ تلك الأنا للحضور في ساحات المواجهة مع الأفكار الأخرى، ومع فراعنة المنطقة.
ويبدو أنّ فكر الشّهيد الصّدر في كثير من البحوث قائمٌ على إعادة الاعتبار القرآنيّ للإنسان المكلّف بالاستخلاف معبِّراً عن العلاقة الاجتماعيّة من زاوية نظر القرآن الكريم، فهو الإطار العام الذي يُغلِّف حركة هذه العلاقة العموديّة أو الأُفقيّة مع الإنسان الآخر أو مع الله تعالى. إن تأطير العلاقة التي يعرضها القرآن الكريم في عناصره الثلاث القرآنية بمفهوم الاستخلاف أدّى إلى الانطلاق بكلّ اتّجاهات العلاقة نحو الغاية الّتي تُحقِّق هذا المفهومَ، لأنَّها تستحضر العنصر الرابع إلى داخل إطارها الاجتماعيّ، وذلك العنصر هو الله تعالى، ما فرض على تلك العلاقة فروضاً أدّت إلى تنوع تلك العلاقة تنوُّعاً فريداً لا يمكن أنْ تجدَه في غير المجتمع القرآني.
لقد بدا توجّه الشّهيد الصّدر نحو اقتراح التّفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم مؤسّسا في ظل مفهوم الاستخلاف القرآني، فهذا المنحى كما رآه الصدر وسيلة لأنْ يقدّم المفسّر نظريات القرآن الكريم في كل ما يعرض لحياة الإنسان من حوادث، عبر تتبُّع متعلِّقات الموضوع في القرآن كلّه، وجمعها لاستنطاقها، ومن ثمّ الخروج بالتّصور القرآني للموضوع بأكمله. فالمفسّر الموضوعيّ بحسب مفهوم الصّدر ينطلق من الواقع إلى داخل القرآن. مع الاحتراز أنْ يتمّ فهم الآيات فهماً قصْريّاً خاضعاً لمراد المفسّر.
لقد عُرّف التفسير الموضوعيّ بأنّه ((المنهج الذي يقوم على أساس دراسة الآيات ذات الصّلة بموضوع جميعها، كوحدة موضوعيّة، يكمل بعضها البعض الآخر، فمثلا عندما يراد فهم قضية المال، أو الحكم في القرآن، أو مسالة الطلاق، أو حقوق المرأة، أو التوحيد، تقوم الدراسة على أساس تجميع الآيات ذات الصلة بالموضوع ودراستها كوحدة موضوعيّة متكاملة لأجل الخروج بأحكام القرآن ومفاهيمه التي تعطينا صورة كاملة عن ذلك الموضوع))) القرآن في مدرسة أهل البيت :85(. ويمكن أن يعرض المفسر ((الأسس العامة للنظرة المتكاملة لقضايا الإيمان الأساسية، وما يتعلق بها، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر.. كما يبيّن الأسس العامة لمختلف الأنظمة كنظام العبادة، والنظام الاجتماعي، والنظام الاقتصاديّ، والنظام الأخلاقيّ، ونظام الحكم))) الوحدة الموضوعية في القران الكريم، والسورة القرآنية: 16).
على هذا فالمفسّر عبر هذا المنهج يستطيع أن يقدّم النظرية القرآنية المتعلقة بكل موضوع من الموضوعات التي وردت فيه. أو كل موضوع من موضوعات الحياة الإنسانية، وهو ما تفتقر إليه الطريقة السائدة في التفسير التي وصفها محمد باقر الصدر بالاتّجاه التّجزيئيّ، أو التفسير الترتيبيّ كما رآها آخرون (ينظر: مناهج المفسرين:146؛ ونفحات القرآن:5). وقد اقترح آية الله مكارم الشيرازي أن يكون هناك ما يسمى بالمنهج الارتباطي ليستدرك على ما تصوّره في التفسير الموضوعي في أنه يكتفي بتناول أطراف الموضوع من دون أن يعقد صلة مع الموضوعات الأخرى. وهو أمر لا سنسجم واساس وصف التفسير بالموضوعي وربطه بالبعد الدلاليّ الكليّ.
وقد خصّ السّيد الصّدر للتّفسير الموضوعيّ مكاناً رفيعاً لمقابلته التّفسير التجزيئيّ فقال السيد الشهيد (( ونسميه الاتّجاه التّوحيديّ أو الموضوعيّ في التّفسير. هذا الاتّجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التّي يمارسها التّفسير التّجزيئي، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة فيبيّن، ويبحث، ويدرس. مثلا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عقيدة النبوة في القرآن أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن أو عن سنن التاريخ في القرآن أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا))) المدرسة القرآنية:23(.
فالمفسِّر(( يبدأ من الموضوع من الواقع الخارجيّ من الشّيء الخارجيّ، ويعود إلى القرآن الكريم)) وسماه بالتوحيديّ (( باعتبار أنّه يوحّد بين التّجربة البشريّة، وبين القرآن الكريم، لا بمعنى أنْ يحمل التّجربة البشريّة على القرآن.. يستخرج المنظور القرآنيّ الذي يمكن أنْ يُحدِّد موقف الإسلام تجاه التّجربة، أو المقولة الفكريّة التي أدخلها في سياق بحثه))(المدرسة القرآنية:35). وهو ما يختلف به عن التّفسير السائد فـ((حصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كلّه تساوي-على أفضل تقدير- مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئيّة أيضاً، أي إنّه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنيّة، لكن في حالة تناثر، وتراكم عدديّ دون أنْ نكتشف أوجه الارتباط، دون أن نكتشف التركيب العضويّ لهذه المجاميع من الأفكار، دون أنْ نحدد في نهاية المطاف نظريّة قرآنيّة لكلّ مجال من مجالات الحياة))) المدرسة القرآنية:22).
ولا يهمل السيد الصّدر في مثل هذا الموضع التنبيه على أمرين مهمين هما:
الأول: إنّ هذه النّظرة لموقع المفسّر وهو يطرح الموضوعات لا تعني أنْ تخضع الآيات قسراً داخل الإطار المفترض للموضوع، لأنّ استنطاق القرآن هنا هو معرفة رأيه، ومعرفة ما يريده منا، لا العكس.
الثاني: إن التفسير الموضوعيّ لا يقف موقف الإلغاء للتّفسير في المرحلة السابقة (التفسير التجزيئي) فيمكن الفائدة منه على نحو فاعل، فهو الرصيد المعرفيّ الذي يتمّ إدراجه داخل الإطار الجديد (أي: الموضوع). فيتمّ تنسيق مادته بما يخدم تقديم النظرة القرآنية المتكاملة للموضوع.
بقيَ أنْ هذا التوجّه الذي أكسبه الصدر الشهيد حضوراً في الدّراسات القرآنيّة والتفسير قد اصطحب معه تأطيراً دلاليّا نراه يقارب (نظريّة الحقول الدلالية) المعاصرة. مع استمداد هذا التوجّه من عنصر ذاتيّ للطّرح يعضّده عنصرٌ تاريخيٌّ يكسب الترجيح للتفسير الموضوعيّ والوجاهة والتأصيل لهذا المنحى ، هي تزيد من رجاحة اعتماده.
ويبرز في هذا التأصيل التاريخيّ ريادة العلماء من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فكتاب ((آيات الأحكام: لأبي نصر محمد بن السائب بن بشر الكلبي من أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق عليهما السَّلام (ت146هـ)، وهو والد هشام الكلبي النسابة الشهير، وصاحب التفسير الكبير الذي هو أبسط التفاسير كما أذعن به السيوطي في الإتقان)) (مفاهيم القرآن ١٠/٣٦٩) يمثّل خطوة السبق. وذكره ابن النديم في الفهرست؛ فعلى ذلك يعدّ محمد بن السائب الكلبيّ ((هو أوّل من صنّف في هذا الفن لا الإمام الشافعي محمّد بن إدريس المتوفّى سنة (ت204هـ) كما زعم السيوطي، وكيف لا يكون كذلك وقد توفّى الكلبي قبل ولادة الشافعي بأربع سنين حيث ولد الشافعي عام 150هـ)) (مفاهيم القرآن١٠/٣٦٩). وذكر محمد حسين الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) عندما تطرق إلى تفسير (كنز العرفان في فقه القرآن) لمقداد السيوريّ مفارقته غيره ممن ألف في أحكام القرآن، فهو لا يَتماشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف كما فعل الجصّاص (ت370هـ)، وابن العربي (ت543هـ).