ما هو الخطاب السردي؟

أ‌.م. د. عهود ثعبان الأسدي
كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية

كم هو مدهش عالم السرد! إنه في الواقع عوالم لا متناهية لا عالماً واحداً. صاحبَ الإنسان منذ بداية رحلته الطويلة، ولا يزال يبهرنا بسحره، فهو يمدنا بالحكمة المصاغة بخيال فني أخَّاذ، ويمنحنا العزاء والتوازن الروحي. وهو فوق ذلك يعيد تشكيل هويتنا، ويرسم بمهارة فائقة مجمل تفاصيل حياتنا اليومية. ولعنا لا نبالغ إذا قلنا إننا متعلقون بالسرد، حتى وإن كنا لا نشعر بذلك في كثير من الأحيان. ولفهم الأسرار الكامنة وراء هذا كله تعددت منهجيات دراسة النص السردي، تبعاً لاختلاف الاتجاهات، ووجهات النظر النقدية.
لكن كيف الوصول إلى دراسة دقيقة تكشف عن الخبايا الإبداعية في النص السردي؟ وأريد بذلك الدراسة العلمية التي تبيِّن الجوهر المشكل لبنية النص، وما يتضمنه من جماليات بنائية، ورسائل، وليس مجرد التوصيف الإنشائي الذي لا يلامس غير القشرة الخارجية للمتن السردي. فذلك التعدد المشار إليه في منهجيات الدراسات النقدية، وما نشهده من مصطلحات كثيرة تتداخل مع بعضها أحياناً، كل ذلك يفرض على المشتغلين بدراسة السرد توخي الحذر في فهم النصوص، وتبني الأحكام، واستعمال المصطلحات الملائمة، لاسيما وأن دراسة السرد أصبحت علماً له مفاهيمه، وحدوده الخاصة.
لقد أفرز التلاقح بين الدراسات الأدبية وعلم اللغة الحديث نظريات ومناهج علمية أفادت حركة النقد الأدبي، ولاسيما دراسة المتون السردية، وفي مقدمتها الرواية على نحو خاص، فضلاً عن أنواع أخرى كالحكايات ونصوص السيرة. يمكننا أن نستحضر هنا المنهجين البنيوي والأسلوبي على سبيل المثال(1) . وقد كان الشكلانيون الروس هم السباقون في تغيير طريقة التعاطي النقدي مع النصوص السردية؛ إذ أنهم نظروا إلى الأدب على أنه تجميع لأدوات فنية بصورة اعتباطية، ثم أخذوا ينظرون إلى هذه الوسائل على أنها عناصر متداخلة، أو (وظائف) ضمن هيكل النص، الذي وجده “توماشفسكي” قائماّ على شقين: متن حكائي، ومبنى حكائي، يقول: ” إننا نسمي متناً حكائياً مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع أخبارنا بها خلال العمل … وفي مقابل المتن الحكائي، يوجد المبنى الحكائي الذي يتألف من الأحداث نفسها، بيد أنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا”. (2).
تأثر (تودوروف) في تحليله للنص الروائي بنظرية توماشفسكي (نظرية الأغراض)، وهو يؤكد أن كل حكي أدبي يقوم على مظهرين متكاملين، أي أنه في آن واحد: “قصة، وخطاب، [و] أن القصة]… [تعني: الأحداث في ترابطها، وتسلسلها، وفي علاقاتها بالشخصيات في فعلها وتفاعلها، وهذه القصة يمكن أن تُقدم مكتوبة أو شفوية بهذا الشكل أو ذاك. أما الخطاب (Discours) فيظهر لنا من خلال وجود الراوي الذي يقوم بتقديم القصة، وبحيال هذا الراوي هناك القارئ الذي يتلقى هذا الحكي. وفي إطار العلاقة بينهما ليست الأحداث المحكية هي التي تهمنا (القصة)، ولكن الذي يهم الباحث في الحكي بحسب هذه الوجهة هو الطريقة التي بواسطتها يجعلنا الراوي نتعرف على تلك الأحداث (الخطاب)” ( 3) . كان تودروف، أيضاً، قد وجد أن هناك فرقاً بين قصة الكاتب، والقصة التي شكَّلها القارئ ” فالكاتب [عنده] يبدأ بالقصة وينتهي بالخطاب، والقارئ يبدأ بالخطاب، وينتهي بالقصة” ( 4).
مع (ليفي شتراوس) سنتعرف على “نحو سردي”( 5) مثَّل نقلة في المقاربات المنهجية لدراسة السرد، فأي حدث كبير في رواية ما مصاغ في جمل، و” كل جملة تحتوي على مسند ومسند إليه، أو على موضوع ومحمول، ويسجل كل جملة في بطاقة خاصة تحمل رقماً يوضح ترتيبها في الخطاب، لكننا عند إعادة ترتيب هذه البطاقات حسب النظام الذي تسير عليه القصة نجدها مختلفة. وهكذا نجد البطاقات تتخذ اتجاهين في الترتيب: الاتجاه الذي يلتزمه الخطاب، والاتجاه الذي تسير عليه القصة” (6). إن النموذج الذي قدمه (جيرار جنيت) يكاد يكون أكثر النماذج البنيوية نضوجاً، كما أنه أيسرها في مجال التطبيق على النص الروائي من سابقيه… بل إنه كان النموذج الأيسر لدى الدارسين العرب، الذين حاولوا تطبيق المناهج البنيوية على النصوص الروائية”.((7).
انطلق (جيرار جنيت) في تحليله للنص الروائي من منطلق لغوي، إذ وجد أن النص مثل الفعل في تعدد أبعاده، فكما أن الفعل له زمان، وله حالة إعرابية، وله صوت[…] فإن النص الروائي كذلك يحتوي على ثلاثة مستويات مشابهة، وهي:
1-القصة ، 2- (story) الخطاب (Discourse)، 3 – السرد ( (Narration.
إن للقصة هنا معنى سردياً، فهي عالم من خيال تتابع فيه الأحداث، ويسعى منتجه لإيصاله للمتلقين بوساطة اللغة، وإن كانت ثمة وسائل أخرى لإيصاله كالصور المتحركة أو الفيلم السينمائي (8). أما الخطاب بحسب تصور(جنيت) له فهو:” المستوى القولي الملفوظ، والمكتوب، الذي يستخدم لاستحضار القصة أو تشييدها، وللخطاب زمانه الخاص، الذي يختلف عن زمان القصة، وله مكانه وحجمه واتجاهه الذي يختلف عن مكانها وحجمها واتجاهها، فإذا كان ترتيب أجزاء القصة يحكمه ترتيب وقوع الأحداث في الزمان، فإن تريب الوحدات القولية يحكمه الموقع التعبيري الدلالي، الذي يشبه مواقع الكلمات في الجملة، ومواقع الجملة في العبارة “( 9). وعليه فإن هناك زمناً للخطاب، وزمناً آخر للقصة. أما السرد الذي يمثل النسق الثالث للنص الروائي فهو يتجلى في الكيفية التي تنبني عليها الأحداث، يشمل ذلك ما صار يصطلح عليه بطرق التقديم، وزاوية الرؤية، والأصوات السردية ( 10).
إن أفضل مقاربة نقدية للنصوص السردية إنما تبدأ من دراسة الخطاب السردي. فالخطاب هو لعبة الزمن، الزمن الأدبي الذي يرسم عالمه الساحر، بعيداً عن مألوفات الزمن الطبيعي. فالفن إبداع، وإضافة خلاقة. ومنشئ النص السردي المميز يبدع ولا يكرر. هكذا كان نص ملحمة الخليقة في أدب وادي الرافدين، وهكذا كانت نصوص فكتور هوغو، ودستوفسكي، وغابرييل غارسيا ماركيز، ونجيب محفوظ، وغائب طعمة فرمان.
المصادر:
1- – ينظر : السرد في الرواية المعاصرة، عبد الرحيم كردي، مكتبة الآداب، القاهرة، مصر، ط2، 2006: 21.
2- تحليل الخطاب الروائي: الزمن، السرد، التبئير، ،سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط2، 1993 :29.

3 – م.ن: 30.
4- السرد في الرواية المعاصرة:57.
5 – النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، ت: سعيد الغانمي، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان ، الاردن، ط1، 1996: 90.
6 – السرد في الرواية المعاصرة:: 58.
7 – م.ن: 59.
8 – ينظر: م.ن: 59.
9- م.ن: 59-60.
10- ينظر: م.ن: 60.