الافادة من الشبكة العنكبوتية بين الرفض والقبول

أ.د. علي كاظم المصلاوي
كلية التربية للعلوم الانسانية- قسم اللغة العربية

يلجأ بعضُ الباحثين إِلى استغلال ما تقدِّمه الشبكة العنكبوتية من مادة جاهزة على شكل منشورات ومقالات وبحوث لا تتَّصف جلُّها بالأكاديمية والانضباط والإِحالة إِلى المصادر، يجدها الباحث متوافرة في الجرائد غير الرسمية والمجلَّات الدعائية، وفي المواقع الثقافية العامة. وهي تشبه الشكولاتة المسلفنة بالألوان البراقة التي تغري الأَطفال وتجذبهم لها. إن هذه المنشورات في الغالب ليست لأسماء معروفة في الأوساط العلمية، ولربما ليس لأصحابها شهادة، أو ثقافة معرفية ما تؤهِّلهم لأن يكتبوا في هذا الموضوع أو ذاك؛ ويأتي الطالب/الباحث ويأخذ منها من دون دراية أَو إِحاطة بهذه الأُمور، فتجذبه لها، ويستحسنها، ويعجب بها لمجرَّد أنَّه لم يجدها في أيِّ كتاب وقع بين يديه، فيستعجل الإِشادة والمدح، ولربما يصل به حدَّ التقديس لها حين يوثِّق بها ما توصَّل إليه من نتائج، وما عرض من معلومات. وحين يأتي أُستاذه المشرف ليطلعه عليها يتعجَّب من ردَّة فعل مشرفه الذي ينهاه من الاعتماد عليها، ويحذِّره منها أَشدَّ التحذير من دون أن يفصِّل له مسببات أو موجبات ذلك، وتظلُّ علامات الاستفهام لدى طالبه كثيرة . فما هو الموقف من الأَخذ من الشبكة العنكبوتية؟ وهل هناك ضوابط تحدِّد طبيعة ذلك الأَخذ، بعد أنْ تتوافر مسوغاته؟
تبين لنا -عبر رصدنا لهذه المسألة- أَنَّ فيها ثلاثة مواقف، تمثَّل الأَول بعدد كبير من الأَساتذة الذين بيَّنوا رفضهم جملة وتفصيلاً للأخذ من الشبكة العنكبوتية، مدعين أَنَّ الكتب، والدراسات الاكاديمية، والمجلات المحكَّمة أحقُّ بالاتباع من غيرها، وهي أولى بالرجوع والتوثيق. ووجدوا في تلك المواد أَنَّها لم تقدِّم شيئا ذا بال، وأنَّ ما قالته وتقوله تلك المقالات مأخوذ من تلك الكتب والدراسات؛ ويحاول بعض هؤلاء الأَساتذة ردَّ تلك الآراء إِلى أصحابها الحقيقيين، ومن ثمَّ فإنَّ إِجراءهم هذا يشير إِلى أنَّ هذه المقالات لربَّما كانت مسروقة من كتب أو دراسات لم يُطَّلع عليها …؟!
وإذا ما تساهل هؤلاء الأَساتذة بعض الشيء في هذا الأَمر فإِنَّهم يبدون توجُّسهم من أمر آخر تقني يتعلَّق بديمومة تلك المقالة على الأَنترنت، فالكثير منها لا يبقى مدة طويلة (أسبوع، شهر، سنة واحدة …) في بعض المواقع التي نشرتها، أو يتمَّ غلق الموقع من أجل الصيانة، أو إِلى غير رجعة، ومن ثمَّ كيف تحيل أَيُّها الباحث إِلى شيء ليس له وجود؟
أما القسم الثاني وهو على النقيض من الأَول فيعدُّ الأَخذ من الشبكة العنكبوتية من الأَشياء المباحة للباحث، حالها حال الكتب، والدراسات، والمجلات العلمية المحكمة شريطة التوثيق برابط المقالة، وتاريخ الأَخذ منها، أو تاريخ نشرها في الموقع، فضلاً عن اسم الموقع الذي لا يهمُّ أتعلق بالتخصص أم لم يتعلَّق. ووجدوا في هذا الموقف مواكبة للحداثة بوجه عام، والحداثة التكنولوجية بوجه خاص التي بدأت تجتاح كلَّ شيء، ومن الضرورة ركوب موجتها مهما علت أو كانت.
أما القسم الثالث فيَقبل من الشبكة العنكبوتية ما كان موثوقاً به كمقالة لأَحد الأَساتذة الأَعلام، أو المعروفين في أوساطهم العلمية، أو فيها جديد لم يقرأه أو يسمعه من قبل،، فيما قرأ واطلع عليه، فتكون عوناً للباحث فيما يذهب إِليه، وما يستند عليه في بحثه، فضلاً عن اشتراطه التوثيق السالف الذكر، مع الاحتياط بأَن يكون الموقع له صبغة الثقافة، إن لم يكن بالتخصص الدقيق والمطابق لعمل الباحث.
إِنَّ الحداثة والتطور التكنلوجي المتسارع في عالمنا اليوم، ومعالجة الاخفاقات والمشاكل الإلكترونية التي كانت تحدث جعلت القسم الأَول يتراجع ليضمَّ صوته إِلى القسم الثالث، وإِنْ لم يخفِ توجُّسه تماماً!
لقد أصبحت اليوم قائمة الشبكة العنكبوتية والمواد التي رجع إِليها الباحث لا تخلو منها رسالة أو اطروحة، بعد أَنْ أخذت موقعها ومحلُّها بعد قائمة المجلات والدوريات المحكَّمة في ثبت المصادر والمراجع. وما ذاك إِلَّا لأَن كثيراً من الأَساتذة الأكاديميين بدأ ينشر – في موقعه الإلكتروني الخاص الذي عَمِله هو، أو على المواقع التي عملتها له بشكل رسمي مؤسسته الجامعية (researchgate ، google scholar) – نشاطاته المعرفية، أو ينشرها على صفحته الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، انستغرام، تلغرام …)، وهو ما يرفع التكاليف المادية المجهدة التي يتطلَّبها النشر في مجلات علمية عالمية ذات معامل تأثير، أو المجلات المحلِّيَّة المحكَّمة، وكذلك أمكنة النشر في مواقع علمية وثقافية ثَبُتَ توجُّهها و حياديَّتها العلمية، فضلاً عن ازدياد إصدار المجلات الإلكترونية المتخصِّصة على حساب الورقيَّة التي بدأت بالتقلُّص والانحسار، وغيرها مما لم نألف حصوله والتعامل معه في عالمنا الثقافي، فلكلِّ زمان وسائله المعرفية التي تنبع من الحاجة إِليها، أو تفرض وجودها والتعامل معها، وهذه الأمور جميعها بدأ يقوى حضورها والاعتماد عليها وتوثيقها من لدن الباحث الأَمين في ثبت مصادره ومراجعه.