دراسة السرد في ضوء النموذج العاملي

أ.م.د. عهود ثعبان الأسدي
كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية

بدأت النصوص السردية منذ القرن التاسع عشر تشهد تنوعاً مدهشاً في أساليب الأداء، مما أكسبها حضوراً مميزاً، وتأثيراً كبيراً في جمهور المتلقين راح يتعزز في القرن التالي، إلى الحد الذي صار معه الفن الروائي ينافس المكانة التقليدية لفني الشعر والمسرح. ولعل شهرة الكثير من تلك النصوص تغني عن ذكرها هنا. وتبعاً لذلك، كان لا بد من طرح أفكار جديدة لدراسة النصوص السردية دراسة علمية لا يشوبها الارتجال، ووفقاً لقواعد ثابتة؛ مثل ما للقاعدة النحوية من رسوخ. ولعل النموذج العاملي الذي قدمه (جوليان غريماس) المتخصص بالدراسات السيميائية واللسانية خير تجسيد لذلك، فإن الفكرة الثرية التي يستند إليها (البحث عن المعنى وكيفية تشكله) زودته بالقدرة على “تفجير الموضوع المدروس، ووصف آلية توليد المعنى”.()
يزاوج غريماس في نموذجه بين الجانبين: الوصفي، والوظيفي، أي بين الجانب البنيوي والجانب السيميائي. وكانت أبحاث كل من فلاديمير بروب، وكلود ليفي شتراوس قد أفادته في تطوير نموذجه (). لقد كان غريماس يريد إيجاد (نحو للرواية)، شأنه شأن الشكلاني فلاديمير بروب الذي يقوم منهجه على نموذج ثابت ينطبق على أنواع القصص كلها(). فجعل “بنية الجملة مشاكلة لحبكة النص.”()
إن مفهوم الشخصية الحكائية عند غريماس” مستمد من مفهوم لساني، فقد حدد الأشخاص لا ككائنات نفسية، وإنما كمشاركين؛ ذلك أن (الشخص) من وجهة النظر الألسنية، لا يحدد بميوله النفسية، وخصاله الخلقية، وإنما بموقفه داخل القصة، أو بعمله، أو دوره فيها.”() وعليه فقد أسس غريماس قواعد سردية تتحكم بالمسرود ()، وأفاد أيضاً في بناء ” تصوره للنموذج العاملي من مفهوم العوامل في اللسانيات، إذ انطلق من ملاحظة (تستتنر Testeniere) التي يشبه فيها الملفوظ البسيط بالمشهد، والملفوظ عنده هو الجملة. ومن وجهة نظر علم التركيب التقليدي تعد الوظائف بمثابة أدوار تقوم بها الكلمات داخل الجملة، وتكون فيها الذات فاعلاً، والموضوع مفعولاً، وتصبح الجملة أيضاً – على وفق هذا التصور- عبارة عن مشهد. وهكذا يستخلص (غريماس) عاملين أساسيين يقوم عليها الملفوظ البسيط، ويقدمهما في شكل متعارض، هو (كالآتي):
الذات الموضوع
المُرسِل المرسَل إليه
ويعمم غريماس هذا الاستنتاج على كل عالم دلالي صغير، فيرى “أن عالماً دلالياً صغيراً لا يمكن أن يحدد كعالم أي ككل دلالي، إلا بالمقدار الذي يكون في إمكانه أن يبرز أمامنا كمشهد بسيط، أي كبنية عاملية”(). وتلك العوامل الستة التي حددها غريماس يمكن تطبيقها على أي حكي، فهي قوانين، ونموذج ثابت لا يطبق على المستوى البسيط من الحكي فقط، بل المعقد منه أيضاً كالرواية، ولا سيما الرواية الحديثة التي أخذت التعقيدات تظهر فيها على نحو كبير.
الفاعل والموضوع (أو الطلبة):
تعد “العلاقة بين الفاعل والموضوع بؤرة النموذج العاملي، وتبدو من جهة غريماس محملة بالشحنة الدلالية الكامنة في الرغبة”(). فالفاعل لا يكتسب مفهوم الفاعلية مسبقاً ما لم تكن له كفاءة تمكنه من تحقيق الفاعلية تجاه موضوع ما. إن تأكيد غريماس على علاقة (الرغبة) بين الفاعل والموضوع من الأمور المهمة جداً في نموذجه العاملي، فإذا لم تكن هناك رغبة من قبل الفاعل عندئذ يكون السعي الى الموضوع عبثياً، وهذا لا يتفق مع أي عمل إبداعي. ففاعلية الفاعل تكتسب بالتدريج ضمن التسلسل المنطقي للسرد. إذاً، فغريماس يعطي للفاعل مفهوماً (ألسنياُ)، أي وظيفة يتحكم بها موقعه وعلاقته ضمن الوحدات السردية الأخرى المؤلفة للرواية. والعلاقة بين الفاعل والموضوع ما هي إلا علاقة دلالية، فوجود أحدهما يتطلب وجود الآخر بالقوة لا بالفعل. ولا يشترط غريماس بالفاعل أن يكون “كائناً انسانياً، كما لا يتحتم أن يكون الموضوع شيئاً جامداً”().
ويصنف غريماس الموضوع على صنفين، على وفق العلاقة التي تربطه بالفاعل:
موضوعات محملة بقيم ذاتية، يمكن تسميتها بمواضيع ذاتية، إذ لها مواضيع ترتبط بالذات.
موضوعات غير ذاتية، لها مواضيع موضوعية مجردة، يمكن معاينتها من قبل الآخرين ().

المؤتي والمؤتى إليه:
يضبط غريماس محل (المؤتي) من نموذجه العاملي ووظيفته بقوله: “عندما حاولنا توضيح أحكام انتقال الموضوعات بين الفواعل في عالم مؤسس على قيم ثابتة ومعترف بها ألفينا أنفسنا مضطرين إلى إغلاقه بواسطة حواجز اسندناها إلى (المؤتين) الذين يتولون مهمة صيانة هذه القيم من التلف وضمان انتقالها إلى عالم مغلق… وبذلك يقومون مقام الوسطاء بين العالم الآتي والعالم المفارق السامي.”()
غريماس، هنا، يؤكد أن مهمة (المؤتي) هي المحافظة على القيم والمثل السامية، لضمان استمرارها. أما المؤتى إليه فيمكن تعريفه بأنه “هو المستفيد بالأمر مهما تكن هويته”() أي المستفيد من حصول الفعل. إن هذا المفهوم يعطي مساحة واسعة للمؤتى إليه فيمكن أن يكون هو “المؤتي أو الفاعل أو كائناً فرديا أو جماعياً آخر.”(). وهكذا فإن حضور (المؤتي والمؤتى إليه) في الخطاب السردي “يوحي بوجود عالم مؤسس على منظومة من القيم يحكم بمقتضاها على الأفعال سلباً أو إيجاباً، فتحل في مرتبة المحرم أو المباح أو الواجب”()، وهذا ينطبق على عالم الرواية، التي هي عالم لغوي.
المساعد والمعارض:
يمثل (المساعد والمعارض) وحدتين عاملتين في سياق “العلاقة بين الفاعل والموضوع”(). وتتركز “وظيفة المساعد في تقديم العون للفاعل بغية تحقيق مشروعه العملي والحصول على الطلبة”()، وبهذا فإن المساعد لا يشترط أن يكون كائناً بشرياً، بل يمكن أن يكون أي شيء يؤدي وظيفة المساعدة للفاعل من أجل الحصول على الموضوع الذي يرغب فيه الفاعل. أما المعارض فهو الذي يقوم “بوظيفة معاكسة لوظيفة المساعد، أي أنه يقف حائلاً دون تحقيق الفاعل لطلبته، وعائقاً في طريقه”.() ولعل من المفيد هنا تلخيص بعض ما يميز نظرية غريماس، وذلك كالآتي:
إن عدد العوامل في كل حكي تنحصر بستة عوامل، هي: “العامل (الذات)، العامل (الموضوع)، العامل (المرسِل)، العامل (المرسل إليه)، العامل المساعد، العامل المعاكس.”()
إن الغالب على المصطلحات المستخدمة في الأنموذج العاملي مستخدمة في اللسانيات.
تحتكم العوامل السردية الى علاقات تربط بينها، هي: أ- علاقة الرغبة، ب- علاقة الاتصال، ج- علاقة القدرة.
إن النموذج العاملي هو نموذج لغوي، يطبق على اللغة الأدبية.()
فالنموذج العاملي على وفق ما تقدم يتعامل مع الشخصية كعلامة سيميائية، للوقوف على الدلالات السطحية والعميقة لأي نص سردي.

المصادر: