أ.د كريمة نوماس محمد المدني
كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية
إن من جماليات اللغة العربية امتلاكها آليات خطابية، ومحفزات نصية قادرة على التأثير في المتلقي، وهو ما يؤدي الى سعة خطاباتها، وتعدد مجالات اشتغالها، وتنوع فضاءاتها ونتاجاتها الدلالية والايحائية، ويكمن ذلك كله في تشكيلاتها النسقية، ومثيراتها اللغوية، وممارستها الإبداعية التي تبرز طاقاتها الجمالية والنصية.
ومن الأساليب التي تنماز بها لغتنا الغراء هو امتلاكها آليات إجرائية ناجعة في اظهار جماليات التخاطب، يأتي في مقدمتها ما يعرف ب(بلاغة المغالطة). ولهذه اللفظة (المغالطة) صلة بالجذر اللغوي لمفردة غلط، فأغلطه أي أوقعه في الغلط، وأغلط في الأمر أي هو غلطان. أما في المعاجم الأجنبية فيُراد به الحجة والاستدلال الفاسد، ويأتي أيضاً بمعنى التضليل والخداع والوهم والخطأ والحجاج.
نفهم من ذلك أن مدلول لفظة المغالطة لا يكاد يختلف في المعاجم العربية والأجنبية، فهي تعني الاستدلال المضلل والوهم والحجة الفاسدة، ويقصد بها الباث أو منتج الخطاب التأثير في المتلقين لإقناعهم بدعواه.
إن مفهوم المغالطة قديم في فكرته، يعود الى آراء السفسطائيين المعروف عنهم إشاعة الأفكار المغلوطة بين الناس، عبر مغالطة الآخرين بأفكارهم وطروحاتهم. وكان أول من استعمله الخطباء في قضاياهم السياسية والدينية والمرافعات القضائية. وعبر تتبع الخلفية المعرفية والمسيرة الفكرية لهذا المصطلح عند البلاغيين والنقاد وجِد أن المفهوم يتمثل بمجموعة من الأفكار والمبادئ، وأن المغالطة هي الحجج التي تبدو في ظاهرها صحيحة ولكنها غير ذلك في الحقيقة، وهي أيضا حيل كاذبة يوظفها الخطيب في اطار جهوده الرامية لتحقيق مقاصده الدنيوية والسلطوية، وقيل أيضا بأنها استنتاجات غير صحيحة، وحيل جدلية لا يمكن توليدها بالقواعد.
ومما يجدر ذكره أن أسلوب المغالطة يكمن في أمرين:
الأول يكون متعلقاً ببنيته اللفظية واللغوية، أما الأمر الثاني فهو متعلق بالصور المرئية والمشهدية، وبتعاضد هذين الركنين يتم أسلوب المغالطة الذي عرف عند بعض البلاغيين بأنه: (استخدام الاستدلال والتفكير غير الصحيح والأفعال الخاطئة في التعليل وبناء الحجة وأسلوبها المراوغة والتضليل والخداع والتدليس). ولهذا رأى بعض النقاد والبلاغيين المعاصرين بأنها نظرية في نقد الخطاب ومتعلقة ببنيتها الحجاجية والاستدلالية، وتنبني على مقدمات صحيحة موهومة واستدلالات مضللة للوصول الى نتائج صحيحة وصادقة بتحليل الأفكار لا الأشخاص، وآلياتها التضليل، والخداع، والتدليس بغية اقناع المخاطب او المتلقي .
أما أهم استراتيجيات التأثير في الخطاب بأسلوب المغالطة فهي كالآتي:
أولاً: الاستهواء، ويراد به توظيف الأسلوب الذي يستميل مشاعر المتلقين، ويغيب فيه المنطق والحكمة، فهو منطقة ملتبسة بين الاقناع الحجاجي والعنف اللغوي التخييلي.
ثانياً: الانحراف، وهي آلية من آليات المغالطة تعتمد تحريف مسار النقاش من مجال تغليط المستمع الى مجال آخر، كأن يتم تناول قضايا سياسية بقضايا دينية، وبالتالي ينحرف مجال الحوار من جوهر الموضوع الى مواضيع عرضية لا علاقة لها بالموضوع وجوهر النقاش.
ثالثا: الاستدراج، وهي تقنية تغليطية أيضا يعتمد عليها الخطيب في طرح أسئلة او قضية للنقاش للاستدراج بموضوع معين أو موقف خارج الموضوع.
رابعاً: التهويل، وهي أيضا استيراتيجية خطابية تغليطية يوظفها الخطيب عبر استعمال أساليب التخويف من موضوع ما أو موقف ما، وذلك بإعطاء الموضوع أكثر من قيمته الحقيقية، ويكون إما بتهويل أخطاء الذاكرة أو تهويل الاختلاف في الرأي .
خامساً: الايهام، وهي أيضا استراتيجية تغليظية يعتمدها الخطيب عبر الميل للغموض ونقل الوقائع والأحداث بغية ايهام السامع.
سادساً: التقويل، أي إضافة أقاويل موهومة وغير صحيحة يلزم المخاطبين بتصديقها.
سابعاً: ازدواجية الخطاب، أي أن الخطيب يوظف خطابين متناقضين بحسب السياق والمقام، ويكثر ذلك في الخطابات السياسية .
ثامناً: مغالطة الهجوم، وتتمثل هذه التقنية بالهجوم على الخصم والتعريض بسلوكياته للتدليل على صدق دعواه وتفنيد دعوى المقابل واضعافها وتكذيبها.
ولا يخلو أي خطاب سياسي من هذه الاستراتيجيات وفيه تتمثل بعض السمات، منها مثلاً: استراتيجيات الايتوس، ويمارس فيها الخطيب السياسي أسلوب الجدية والمصداقية، وأنه سيتعامل بكل مهنية واحترافية لتحقيق مطالب المتلقين، فتظهر الكفاءة والفضيلة والمقدرة والتكاتف والتضامن بشكل مضلل، ومنها أيضاً استراتيجيات الباتوس، وتظهر فيها قدرات الخطيب على التغيير عبر الإمكانيات التي يمتلكها، وفهمه لانفعالات الآخرين في سبيل اقناعهم ببرنامجه السياسي موظفاً الأحاسيس العاطفية، ومشاعر الصمت والانكار لما تقدم من مغالطات.
المصادر:
1_ بلاغة المغالطة في الخطاب السياسي: دراسة في آليات الإقناع واستراتيجيات التأثير، د. عبدالوهاب صديقي، ط 1، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الأردن، 2021.
2_ استراتيجيات الاقناع والتأثير في الخطاب السياسي: خطب الرئيس السادات نموذجاً، د. عماد عبد اللطيف، ط1، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012.