ازمة covid-19 ومتضمنات نظرية البجعة السوداء

أ.م.د سلطان جاسم النصراوي  

تاريخ المقال  1/8/2020

قسم الاقتصاد — كلية الإدارة والاقتصاد 

في عام 2007 صدر كتاب البجعة السوداء The Black Swan عن Random House للمؤلف الأمريكي الجنسية اللبناني الاصل نسيم نيقولا طالب Nassim Nicholas Taleb  وقد كان هذا الكتاب الأكثر مبيعاً على قائمة نيويورك تايمز، وفي عم 2009 تمت ترجمة الكتاب الى اللغة العربية وقامت الدار العربية للعلوم ناشرون في لبنان بطبعه ونشره.

وبعيداً عن التفاصيل الجزئية للكتاب، تدور احداثهُ حول فكرة أساسية وهو اعتقاد الناس (حتى قبل اكتشاف وجود البجعة السوداء في القرن الثامن عشر في غرب استراليا) بأن جميع طيور البجع هي بيضاء، ومن ثمً فإن مشاهدة بجعة سوداء لأول مرة تمثل مفاجئة وصدمة، ولكن (وكما يقول الكاتب) هذا ليس مربط الفرس في هذه القصة، فالمسألة هي إن هذه الطرفة تقف شاهداً على محدودية معارفنا المستقاة من الملاحظة والتجربة وهشاشة مداركنا عن الأشياء والأمور.

وتجدرُ الإشارة الى ان دليل مصطلحات Harvard Business Review قد أشار الى أن أول من استخدم المصطلح هو الاقتصادي جون ستيوات ميل في القرن التاسع عشر عند حديثهُ عن التزييف.

عموماً، إن ما يُطلق على تسميتهُ بالبجعة السوداء بحسب رأي الكاتب حدث يتمتع بثلاث خصائص أو ثلاث تبعات وهي([1]):

الأولى: انها عرضية (حدث مفاجئ) كونها تقع خارج نطاق التوقعات او من الصعب التنبؤ بها.

الثاني: انها تتضمن تأثيرات بالغة الشدة ذات انعكاسات قوية وربما كارثية.

الثالثة: بالرغم من كونها واقعة عرضية فإن طبيعتنا البشرية تجعلنا ننسج تفسيرات لها بعد حدوثها على ارض الواقع.

فأذن حتى يأخذ حدث ما صفة “البجعة السوداء” يجب أن يكون مفاجئ وغير قابل للتوقع وله تأثير كبير، ومن ثمً بعد وقوعه تظهر التفسيرات والتوقعات والتحليلات.

وبإسقاط هذه الخصائص على الاقتصاد العالمي نجد عدد غير قليل من البجعات السوداء في سماء الاقتصاد العالمي متمثلةً في الازمات الاقتصادية والمالية وانتشار الأوبئة والامراض والهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية … الخ منذ القرن الثامن عشر حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرون. وما برحت في تزايد مستمر لا سيما في عصر العولمة وشيوع مظاهر الانفتاح والتحرر والتقدم التقني الهائل.

ومن ثمً، فان كل الازمات والتوترات الاقتصادية والكوارث الطبيعية وغير الطبيعة والجوائح والاوبئة يُمكن ان نطلق عليها اسم “بجعة سوداء”، فمثلاً ازمة الكساد الكبير، وانتشار مرض الكوليرا وأزمة انهيار الأسواق 1987 واحداث 11سمبتر/ أيلول وأزمة الرهن العقاري 2007 وليس آخرها صدمة كورنا بسبب تفشي وانتشار الفيروس الى اغلب دول العالم وما خلفها من تداعيات اقتصادية واجتماعية قاسية وباهظة الثمن، هي بجعات سوداء. 

والان دعنا نتأمل في ازمة كورونا التي انطلقت شرارتها من الصين لتضرب اغلب دول العالم وتصيب أكثر من 17 مليون نسمة حول العالم مع تسجيل نحو 680 ألف حالة وفاة لغاية نهاية شهر تموز/ 2020، فلو كان لاحد ان يتوقع ما سببته من اضرار وخسائر وتداعيات مادية وبشرية لكان تم اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتجنب ذلك.

اذن فهي حدث مفاجئ وغير متوقع وهذه هي الخاصية الأولى من خصائص البجعة السوداء، اما الخاصية الثانية فتمثلت بالخسائر والانعكاسات السلبية القوية على الاقتصاد العالمي، اذ أدى انتشار الجائحة الى إغلاق عام كبير، وفرضت الازمة اسلوباً جديداً من التعامل متمثلاً بالتباعد الاجتماعي، مما ترتب عليه إيقاف كل أنواع الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية  منها والخدمية، وتراجعت قطاعات الصناعة والتجارة والسياحة والنقل …الخ، وتكبدت الأسواق المالية خسائر فادحة واضطربت أسواق النفط، وارتفعت الديون السيادية الى مستويات قياسية لم تبلغها منذ الحرب العالمية الثانية.

وتشير التقديرات الى ان جائحة كورونا تسببت بتراجع الناتج العالمي بنحو 5% في عام 2020، كما من المتوقع ان يتراجع الناتج الاجمالي في الاقتصادات المتقدمة بنحو 7% وهو اول تراجع لها كمجموعة منذ ست عقود مضت، اما في الولايات المتحدة الامريكية فمن المتوقع تراجع الناتج بنحو 6.1% في حين سينكمش الناتج في منطقة اليورو الى ما يقارب 9.1%([2]).

وبالنسبة لأسواق العمل أدى انتشار الوباء الى حدوث صدمة في سوق العمل، وحدثت صدمة عرض (صدمة في الإنتاج) وصدمة طلب (استهلاك واستثمار) مما انعكس على فقدان الوظائف في الكثير من القطاعات الاقتصادية وعلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم نتيجة للقيود والإجراءات التي اتبعتها الدول لمواجهة تفشي الوباء. ويشير تقرير لمنظمة العمل الدولية ILO ان الملايين من العمال مهددين بفقدان فرص العمل لا سيما العاملين في القطاع غير الرسمي، سواء من خلال فقدان الوظائف او عدد ساعات العمل اليومية([3]).

اما بالنسبة لقطاع السياحة فتشير تقديرات وتوقعات منظمة السياحة العالمية UNWTO الى انخفاض اعداد السياح عالمياً بنسبة  قد تصل الى ما يقارب 30% في عام 2020 نتيجة تأثير فيروس كورونا وما تبعه من قيود على السفر،  في حين قد تنخفض بأكثر من 400 مليار دولا  خلال 2020 لتكون أسوأ أزمة يشهدها القطاع السياحي خلال العقود الخمسة الماضية([4]).

اما قطاع الطيران والذي يسهم بنحو 3.5% من الناتج العالمي ويوفر الملايين من فرص العمل ويسهم بنقل بضائع بنحو 6 ترليون دولار سنوياً فقد تأثر هو الاخر من تداعيات تفشي جائحة كورونا وبشدة لتنخفض عائدات الشحن الجوي بما يقارب 200 مليار دولار مع تراجع حركة التجارة الدولية والشحن الجوي للبضائع([5])

وفي ضوء ذلك، صُنفت الجائحة ضمن الاحداث المفصلية ذات التأثيرات العالمية الجوهرية التي ستمتد اثارها على المدى الطويل.

في حين تمثلت الخاصية الثالثة بالتفسيرات والتحليلات والتوقعات لانعكاس انتشار الجائحة على الاقتصاد من كل حدب وصوب، لا بل تعدى ذلك حتى دخلنا في مرحلة التنظيرات والتنبؤات المستقبلية القاتلة حول اقتصاد ما بعد كورونا.

ختاماً، لم يكن تفشي جائحة كورونا حدثاً عابراً كغيرهُ من موجات انتشار الأوبئة والامراض التي ضربت العالم، اذ لم تكن ازمة الكساد الكبير ولا كل موجات الركود والأزمات على مدى القرنين الماضيين بمثل هذا الاستنزاف والخسائر الكبيرة في 6 أشهر فقط، وإذا كنا قد أطلقنا اسم البجعات السوداء على كل الازمات والاحداث والكوارث والاوبئة التي مرت على الاقتصاد العالمي، فإن ازمة كورونا هو بجعة سوداء قاتمة السواد تختلف عن البجعات السوداء السابقة بسبب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة على كل الاقتصاد العالمي.

 وقد نرى شكل جديد من البجعات تختلف عن البجعات البيضاء او السوداء متمثلة بانتشار الجوائح والاوبئة واستمرار تداعياتها المؤلمة في الاقتصاد العالمي.

   

[1]( نسيم طالب، البجعة السوداء: تداعيات الاحداث غير المتوقعة، ترجمة: حليم نسيب نصر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009، ص10.

([2] موقع البنك الدولي، متوفر على الرابط، https://www.albankaldawli.org/

[3]) ILO Monitor 2nd edition: COVID-19 and the world of work Updated estimates and analysis, international labour organization,2020, p2.

([4] موقع منظمة السياحة العالمية متوفر على الرابط، https://www.unwto.org/ar

[5](هبة عبد المنعم، محمد إسماعيل، تداعيات ازمة فيروس كورونا المُستجد على قطاع الطيران في الدول العربية وسياسات دعم التعافي، موجز سياسات: العدد الثالث عشر، صندوق النقد العربي: أبو ظبي، 2020، ص2-3.