د. نبراس هاشم ياس
كلية التربية للعلوم الصرفة
تهتم الدراسات الثقافية باللغة والمجتمع على حد سواء، ولم يعد حقل النقد, والأبحاث الأدبية والثقافية ترفاً فكرياً يستأنس به القارئ فقط، إذ أن مسؤولية الناقد الثقافي تشمل وصف حراك اللغة وتأثيرها في القابل من الأيام، وهذا – في حقيقة الأمر – هو دور من الأدوار التنويرية للمثقف في مجتمعه.
في هذه الأيام, والعالم يواجه وباء كورونا, سمعنا آراء ومصطلحات كثيرة. وإن وقفنا على بعض من تلك المصطلحات سنجد كثيراً من المشتركات بين لغة العلم والحياة الاجتماعية, وفي ذلك مدعاة الى إعادة الفكر والتأمل في كل حدث تمرّ به البشرية. فهل ستكشف لغة العلم والأرقام والإحصائيات عن طريقة تفكيرنا في علاقاتنا داخل المجتمع, أم إنها مجرد بنية افتراضية استعان بها الإنسان في حياته لإيجاد حلول للصعوبات التي تواجهه؟
من المصطلحات التي رددها العلماء هذا العام مصطلحي الناقل الصامت ومناعة القطيع, وغير ذلك كثير. لكننا سنقف في هذا المقال على هذين المصطلحين فقط.
المصطلح الأول: الناقل الصامت.
أكدّ العلماء أن هناك ما يسمى بـ”الناقل الصامت”, وهو الأنسان الذي ينقل المرض لكن لا تظهر عليه أعراض, وفيه يكمن الخطر الحقيقي, لأنه يسهم في تفشي الوباء, فلا يحجر نفسه ولا تبتعد عنه الناس ظناً منهم إنه سليم معافى. وقد ذكرت الصحف إن هناك امرأة مصابة بالسرطان استمرت بنقل المرض لمدة ثلاثة أشهر دون أن تظهر عليها أعراض الوباء. وكذلك هناك الكثير من الأشخاص الأصحاء يبدون غير مصابين, إلا انهم حاملين لفايروس كورونا, من غير أن يكونوا على علم بذلك. لذا فإن قرارات مثل إيقاف عمل المدارس والجامعات وكثير من الدوائر والمؤسسات العامة والخاصة, وفرض إجراءات التباعد الاجتماعي والحجر الصحي تستند كلها إلى رأي علمي مقرر في كتب الصحة العامة والدراسات الطبية, وليست مجرد قرارات سياسية, أو مجرد رأي لجهة ما.
ولو قارنا هذا الأمر بما يحدث في المجتمع من أوبئة اجتماعية, سنجد أن هناك أشخاصاً ينقلون الفساد و سوء الخلق, من الذين ورد ذكرهم في القران الكريم في قوله تعالى في سورة المطففين الآية 14 : (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون), والرين هو الصدأ ورد في لسان العرب الرين الصدأ الذي يعلو السيف و المرآة. وفي بعض التفاسير جاء أن الرين كثرة الذنوب التي تعتري قلب الإنسان حتى يعمى فيموت قلبه من الصدأ. إن ميت القلب هذا يشبه الناقل الصامت الذي يسهم في نشر الفساد والأوبئة في المجتمع وهنا تأتي أهمية الحرص على علاج هذا الناقل الصامت, أو صاحب القلب المرين لتأمين سلامة المجتمع, لحين النجاح في إعادة تأهيله.
المصطلح الثاني: مناعة القطيع.
قال علماء المختصون في علم الأوبئة إن مناعة القطيع لا تتحقق مع فايروس كورونا، لأسباب منها احتمالية أن يصاب الأنسان بالفايروس مرتين. والأمر الآخر إن مفهوم مناعة القطيع يقترب من مفهوم البقاء للأقوى, ولا يوفر حماية للضعفاء أو كبار السن. وأظن أن مناعة القطيع هذه تشبه ثقافة القطيع, فثقافة القطيع تعني أن يتبع الأفراد سلوكاً موحداً دون الأخذ بالتأثيرات السيئة على الآخرين في المجتمع, فإذا انتشر الظلم أو الرشوة مثلاً وأصبح ذلك سلوكاً شائعاً, فكيف سيجد الفقير و الضعيف والطفل اليتيم فرصة للعيش في ذلك المجتمع؟ هؤلاء الذين لا يمكن إنكار وجودهم, بل أن وصف المجتمع بالمجتمع المتقدم لا يتحقق بوفرة الإمكانات المادية, وإنما بمساندة أولئك الذين هم بأمس الحاجة للمعونة.
والحق, إن الأمر أشبه ما يكون بنسيج, أو شبكة تحمي الجميع وقت المرض أو الضعف, وهكذا يتحقق معنى المجتمع, إذ هو ليس مجرد مجموعة من الأفراد الأقوياء, من ذوي الصحة والثراء فحسب. فالتفكير في هذه المزايا وما يشبهها يتنافى مع طبيعة الأنسان البيولوجية والاجتماعية أيضا، لأنه قد يمرض أو يصبح فقيراً بعد غنى, وهو مع فقره أو مرضه يبقى قيمة عليا يجب الحفاظ عليها، فالوجود الإنساني ليس وجوداً مادياً فقط , وهذا ما يجعلنا نقارن مثلا بين ما حدث في العام 1918 والعام 2020, وكيف واجه العالم الفايروسات والأوبئة بعد مرور قرن كامل شهد تغيرات مادية وتكنولوجية على نحو مدهش. ولكن السؤال الذي يبقى ملحاً هو: هل أسهم التطور المادي والتكنولوجي بإنقاذ الإنسان أم إن الأنسان دفع ثمن تطور الحياة المادية, وخرج بلا مكاسب حقيقية, بعد أن أصبح الاقتصاد بلغة حساباته وأرقامه أكثر قيمة منه؟ وحتى العلم نفسه سيفقد كل قيمته وفائدته في اللحظة التي لا يعود فيها في خدمة الإنسانية. وقد قال أبو فراس الحمداني في هذا المعنى:
إذا كان غير اللهِ للمرءِ عدة أتتهُ الرزايا من وجوهِ الفوائدِ
المصادر:
موسوعة النظرية الثقافية المفاهيم والمصطلحات الأساسية،، أندرو إدجار وبيتر سيد جويك ، ترجمة هناء الجواهري، المركز القومي للترجمة, مصر، الطبعة الثانية 2014.
لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، مادة (رين).
ديوان أبي فراس الحمداني، شرح خليل الدويهي، دار الكتاب العربي ، لبنان، الطبعة الثانية 1994.