الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
سنتطرق في الفقرات القادمة الى موضوع مهم للغاية لا أظنه يغيب عن ذهن الكثير من الباحثين المنشغلين بعمق في دراسة العراق (تاريخا ومجتمعا) الا وهو تحديد عوامل الضعف والقوة المتحكمة بصيرورة هذا البلد، والذي تأتي الإشارة اليه هنا ربما للفت انتباه المواطن العراقي الى هذه العوامل سواء كان من القادة ام من الاتباع، وسواء كان من النخبة ام من العامة، هذا من جانب، ولترسيخها والايمان بها من خلال تكرار الحديث عنها؛ توضيحا لأبعادها المهمة وأقناعا للمشككين بها كي يعيدوا حساباتهم، ويعتنوا بالأسس الصحيحة والمناسبة لحماية مصالح دولتهم العليا، من جانب آخر. لذا سيكون الحديث عن هذه العوامل بإطارها العام المجمل، تاركين لذوي الالباب الفطنة، والنفوس الحرة المتحفزة فرصة الغوص بها أكثر، وكل حسب تخصصه واهتمامه، لاسيما إذا أدركنا ان عملية بناء الدول والمجتمعات الحديثة تعد من اعقد المهام، وأكثرها صعوبة في جميع بلدان العالم، وفي البلدان التي لم تتعلم وتفهم معنى الدولة الحديثة بوجه خاص.
ان الدولة ككيان قانوني سياسي هي كالفرد في ادراكها لنفسها، وفي تنظيم علاقاتها مع بيئتها الداخلية والخارجية، فكما أن الفرد إذا عرف نفسه بشكل صحيح، وفهم محيطه بشكل مناسب، وعمل من خلال هذه المعرفة والفهم على تحديد نقاط ضعفه وقوته الذاتية، وتلك الموجودة في محيطه، فحرص على تلافي الأولى بذكاء، ووظف الثانية بحكمة لبلوغ أهدافه القريبة والمتوسطة والبعيدة، يكون قد اختط لنفسه مسارا للتقدم والرقي يقهر به التحديات ويتجاوز الصعوبات في عالم يكون البقاء فيه للأقوى لا في عضلاته فحسب، وانما –أيضا-في قدرته على التكيف مع ظروفه المتغيرة، فيما يكون نصيب العاجز عن ذلك التيه والارباك وكثرة الفشل لتدهمه الاحداث حاكمة عليه بالسحق والفناء وعدم القدرة على اثبات مكانه تحت الشمس. كذلك الحال بالنسبة للدولة في بلوغها مراقي القوة والمجد والعظمة، وفي انحدارها نحو الضعف والتفكك والزوال.
وقوة الادراك بالنسبة للدول ليست وليدة حاضرها فقط، بل هي مستمدة –أيضا-من ميراثها التاريخي، اذ كثير من الدول تراكمت قوتها وعظم شأنها عندما تعلمت من تجاربها الماضية التي كشفت لها عن مكامن ضعفها وقوتها، فتجنبت تكرار اخطائها السابقة؛ لأن تكرار أخطاء الدول يعد دليلا بارزا على حماقة قياداتها، وخمول ذاكرتها الإيجابية، وتدني وعيها الخلاق.
انطلاقا مما تقدم، تجد العراق كدولة ومجتمع، بصرف النظر عن طبيعة دولته (دويلة مدينة، امبراطورية، دولة حديثة) ونوع مجتمعه (سومري، اكدي، بابلي، اشوري، عربي) يعطي من خلال تجربته التاريخية الطويلة في الإخفاق والفشل مرة، وفي النجاح والتقدم الحضاري مرة أخرى دروسا مهمة لقادته وسكانه تنبأهم متى يكونون على مسار الانحدار والضعف؟ ومتى يكونون على مسار العلو والرقي؟، فتاريخ هذا البلد منذ نشأته الأولى على يد السومريين قبل خمسة الاف سنة من ميلاد السيد المسيح الى يومنا الحاضر يُظهر وبلا عناء طويل ان له عوامل ضعف عندما تشتد سطوتها تقود سريعا الى انهياره اجتماعيا وحضاريا، كما ان له عوامل قوة إذا ما استثمرت بصورة صحيحة فإنها كفيلة بإعادته الى مجد الحضارة وتقدمها.
وقد يقول قائل: ان هذه العوامل ليست حكرا على العراق، بل هي تصدق على كل دول العالم، وهذا الرأي صحيح ولا جدال فيه، لكنها في العراق لها خصوصيتها التاريخية وتأثيرها الكبير والمركب، فضلا على أن الكثير من الدول الأخرى أدركت بوعيها وإرادة مجتمعاتها عوامل ضعفها وقوتها بشكل أو آخر، وتكيفت معها بما يخدم مصالحها ويحقق اهدافها. أما العراق فما يؤسف له حقا ان سكانه (نخبا وعامة) لا زالوا غير مدركين لهذا الأمر، أو غير راغبين بذلك، ولا يولونه اهتمامهم، ناهيك عن عجزهم الواضح في فهم وتطبيق قانون التكيف مع أنفسهم ومع محيطهم، لذا تجدهم يدورون جيلا بعد جيل في نفس الحلقة الملعونة من التردي والفشل، وكأنهم لم يتعلموا شيئا من تجارب اسلافهم، ولم يحذروا غالبا من تكرار اخطائهم.
عوامل ضعف العراق
تظهر التجربة التاريخية ثلاثة عوامل رئيسة لضعف الدولة والمجتمع في العراق، وهذه العوامل تصنف حسب الأهمية والاولوية الى ما يلي:
أولا-الاستبداد السياسي.
شكل الاستبداد السياسي-ولا زال- عاملا بارزا من عوامل الضعف والمقت في السياسة العراقية عبر تاريخها الطويل، حتى تحولت الى ثابت من ثوابت هذه السياسة لا على مستوى الحكام لوحدهم فحسب، بل وعلى مستوى الثقافة السياسية العامة ايضا، لذا من اليسير ان تسمع اليوم، كما هو الحال بالأمس، من عامة العراقيين، ومن كثير من نخبهم، حديثا عن حاجتهم لحجاج او صدام يحكمهم، بحكم ما ألفوه في تاريخهم من انتظام واستقرار ولو مؤقت تحت حكم الطغاة، ولكن ما لم يدركه أصحاب هذا الكلام هو أن الاستبداد في تاريخ بلدهم انتج بمرور الزمن ثقافة عامة سائدة هي ثقافة عبيد لا ثقافة احرار أضعفت المناعة الداخلية للمجتمع، بل وانهت حصانته وقدرته على المواجهة، فاستنزاف طاقة الحياة في المجتمع العراقي من قبل الطغاة (المحليين والأجانب) نخرت المجتمع من الداخل، وحولته الى بناء هش سريع الانهيار.
وعليه لا عجب ان ترى بابل العظيمة سنة 539 ق.م تسقط في 12 يوم أو أقل من ذلك بكثير في احدى الروايات امام جيوش قورش الاخميني على عظمة عمرانها وقوة حصونها، بل ويستقبل جزء من شعبها الغازي الطامع بالترحيب والتهليل، ولو بشكل خجول، ثم تكرار هذه التجربة المُرة بعد ذلك لمرات عديدة وصولا الى مطلع القرن الواحد والعشرين ليسقط العراق من جديد في 21 يوم فقط امام الغزاة الامريكان وحلفائهم المحتلين سنة 2003م.
ان السبب في حدوث ذلك هو الاستبداد السياسي الذي حول المجتمع من مجتمع احرار الى مجتمع عبيد يحكمه الطغاة وفقا لأهوائهم ومصالحهم ومقتضيات بقائهم، ومن طبع العبيد أنهم لا يدافعون عن اسيادهم ابدا، بل يتخلون عنهم ويسلمونهم الى مصيرهم المشؤوم في اقرب فرصة تلوح للخلاص منهم، سواء جاءت بيد محتل اجنبي أو طامع محلي، فهم لا يشعرون أن معركة ومصالح الاسياد معركتهم ومصالحهم، وغاية الامر في وعي الكثير منهم أن ما يحدث هو استبدال سيد قديم ميؤوس من خيره بسيد جديد يرتجى الخير منه، لذا يجدون في الخلاص من القديم مظهرا من مظاهر التشفي والشعور بالانتقام والثأر لمآسيهم وبؤسهم على يديه، حتى لو كان الجديد اطغى منه وأفسد.
لقد علمت التجربة التاريخية الانسان العراقي أن الاسياد لا يستحقون الدفاع عنهم؛ لذا تجده غير راغب بحماية ارض ليست ملكه، وبقاء حكم لا يمثله، واستمرار حاكم لم يحفظ حقوقه ولم يصن كرامته، وهذا السلوك للفرد والمجتمع سيستمر ما استمر الاستبداد في حياتهم السياسية. فالاستبداد السياسي الطويل لحكام العراق (محليين وأجانب) الحق اضرارا جسيمة بالإنسان والثروة والحضارة في هذا البلد، انعكست تأثيراته السلبية على القيم والتقاليد والعادات، وعلى انماط التفكير والسلوك، لذا يشكل بقاء منهج الاستبداد استمرارا أحمقا لمنهج التدمير والضعف للدولة العراقية بصرف النظر عن الحجج والمبررات.
ثانيا-الانقسام والصراع الاجتماعي.
لم يكن الانقسام والصراع الاجتماعي الذي حدث بين عبدة الاله مردوخ (إله الشمس) وعبدة الاله سين (إله القمر)، والذي استفحل بوجود عبدة يهوه (الله سبحانه وتعالى) في بابل وقاد في النهاية الى دمار الإمبراطورية البابلية الثانية سنة 539 ق.م مجرد حدث عابر في تاريخ سكان العراق، فمن الأمور المؤسفة لقاطني هذه الأرض أنهم شديدو الانقسام والصراع فيما بينهم حتى مع ادراكهم لحقيقة ان انقسامهم يمهد طريق أعدائهم لقهرهم جميعا وفرض اطماعهم عليهم.
وأسباب الانقسام والصراع كثيرة لدى العراقيين الا ان تلك المستندة الى دوافع دينية شكلت المظهر الاعم على طول الخط، وبلونها وتفرعاتها تكونت وتمظهرت جميع الانقسامات والصراعات الأخرى، ولا غرابة في ذلك فالعراق منذ فجر التاريخ شكل المنبع لمعظم الأديان التي عرفتها البشرية سواء كانت توحيدية ام وثنية، ولكن الغرابة هي في عدم تحول العراق –أيضا- الى ملهم للبشرية في إدارة تنوعه الديني والاثني، اذ لا زال مجتمعه بدائيا للغاية في أنماط تفكيره وسلوكه عند التعامل مع قضية الاختلاف مع الاخر.
لقد هدد ولا زال الانقسام والصراع الاجتماعي وحدة العراقيين، وأضعف شوكتهم، وفتح الأبواب على مصراعيها للتدخل في شؤونهم، ونهب ثرواتهم، وتفكيك دولتهم، فقد سقطت بغداد العظيمة على يد المغول سنة 1258 م بعد أن عانت لوقت طويل من الانقسام والصراع الداخلي الحاد لاسيما بين شيعتها وسنتها، وحكامها ومحكوميها، ناهيك عن الصراعات الدامية بين أطرافها الحاكمة نفسها والتي وصلت الى حد قتل الأخ لأخيه، والأب لأبنه، والابن لأبيه، فضلا على الصراعات داخل القبيلة الواحدة وبين القبائل المختلفة.
وشكل الانقسام والصراعات الناجمة عنه المادة التي سمحت منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي لكل من الدولة العثمانية والدولة الإيرانية –آنذاك- بالتدخل في العراق واحتلال ارضه واذلال شعبه، فقتلت الأولى شيعة العراق بحجة حماية سنته، وقتلت الثانية سنة العراق بحجة حماية شيعته، ليصل سكان هذا البلد بعد أربعة قرون طويلة من القهر والظلم الخارجي الى القرن العشرين وهم شعب يقع خارج ميدان الحضارة في العلم والمدنية والتنظيم الاجتماعي والسياسي والتطور الاقتصادي، فيما كانت خيراتهم وثرواتهم تصنع مجد بلاد عثمان وبلاد فارس.
وعلى الرغم من تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921م وفقا لنمط الدول السائد في العالم المتقدم الا انها وللأسف استصحبت معها ميراث اسلافها من الدول والمجتمعات التي سكنت هذا الأرض فيما يتعلق بقضية الانقسام والصراع الاجتماعي الحاد، وكأن القرون الطويلة من الاذلال والاهانة التي تعرض لها الاسلاف لم تكن كافية ليتعظ بهم الاخلاف، فاستمر الصراع على أشده بين العراقيين، وقاد انقسامهم وتقاطع رؤاهم فيما يتعلق بعيشهم المشترك وبناء دولتهم الى تدخل الجيش في السياسة منذ سنة 1936م، وتدهور الحال أكثر الى حد احتلال بلدهم للمرة الثانية على يد الانجليز سنة 1941م، وسقوط النظام الملكي سنة 1958م، وكان سببا للمؤامرات والعنف الذي رافق جمهوريتهم التي تلت هذا التاريخ وصولا الى الوقت الحاضر.
والانقسام والصراع الحاد بين العراقيين هو مظهر من مظاهر الارتداد البدائي في حياتهم قاد في حالات كثيرة الى أن تغزو القبيلة قبيلة أخرى، ويعتدي الأخ على أخيه، والجار على جاره بسبب: الطمع واللهاث الاعمى وراء الغنيمة، أو بسبب الاختلاف في الدين والمذهب والقومية والانتماء السياسي… ليس في مرحلة زمنية واحدة أو ظرف محدد، وانما عبر مراحل وظروف عديدة تجد مصاديقها في بطون كتب التاريخ، كما تجدها في تجارب المجتمع البعيدة والقريبة.
وهذه الظاهرة تمثل حالة مرضية خطرة للغاية، تتحمل مسؤوليتها بالدرجة الاولى النخب المتنفذة في هذه البلاد على اختلاف اطيافها الدينية والسياسية والاجتماعية ولا يتحملها الناس البسطاء، فعامة الناس في العراق مبتلين بنخبهم؛ فهم كبشر يرغبون فيما يرغب فيه أي انسان آخر على وجه الأرض من الحياة الكريمة، والتنظيم الجيد للحكم والعلاقات الاجتماعية، والامن والاستقرار وما شابه، ولكن فساد نخبهم، وعدم تعودها على الحوار الموضوعي، وتعمدها اقصاء المخالف والمختلف معها بأي صورة ومهما كان الثمن، فضلا على الانانية المفرطة لكثير منها، ونرجسيتها العالية، وسوء تقديرها للظروف ولمصالح مجتمعها ودولتها…اوهن في النهاية المجتمع والدولة، واغرقهما في مشاكل كثيرة كان بالإمكان تجاوزها بسهولة لو توفرت نخب حقيقية تشعر بمسؤوليتها الأخلاقية ودورها التاريخي، فالناس في النهاية هم تبع لنخبهم، والنخب الفاسدة والمنقسمة بحدة، والمتصارعة على طول الخط، تنتج غالبا مجتمعا أسوء منها، واكثر جهلا وحماقة.
ثالثا-التدخل الخارجي.
قدر العراق أن يكون ممرا لكل الغزاة، ومفتاحا لتأكيد الزعامة والسيادة الإقليمية منذ أقدم العصور، فهو قلب العالم القديم، ومنطقة الصدع الاجتماعي الأعظم في الشرق الأوسط، فعلى ارضه تحتك الحضارات والثقافات الشرق أوسطية الرئيسة، وتتصارع الدول والامبراطوريات الطامحة مع نظيرتها العراقية وغير العراقية، فكانت شهوة التدخل بقصد السيطرة على الثروات وقهر المنافسين ام بقصد حيازة مجد حكم بلاد سومر وأكد وبابل وأشور وبغداد شهوة عارمة لدى جيران العراق وخصومه زادت مضاعفاتها ونتائجها السلبية بما تركه عاملا الاستبداد السياسي والانقسام والصراع الاجتماعي من تأثيرات مدمرة على شخصية الانسان العراقي وميراثه الثقافي (القيمي والسلوكي).
لقد عانى سكان العراق من التدخل الخارجي بشكل لن تجد له نظيرا بين بقية البلدان، وغالبا ما وقعوا ضحية تضليل وخداع جيرانهم الطامحين والطامعين بهم لوقت طويل، وكانوا للأسف يكتشفون بعد فوات الأوان هذه الحقيقة، تماما كما خدع قورش الاخميني عبدة الاله مردوخ في بابل، فظنوا أنه احتل بلادهم من اجل اعادة الاعتبار لهم ولمعتقداتهم سنة 539 ق.م، فما كان منه الا ان فرض عليهم ولده قمبيز حاكما، ثم قام فيما بعد حفيده داريوش بتدمير مدينتهم العظيمة، وبضمنها برجها المقدس المشهور ومعالمها العمرانية الأخرى فأنهى وجودهم الحضاري لأكثر من 1200 سنة، وتكررت هذه الصورة القاتمة والحزينة لأكثر من مرة بعد ذلك، وكان آخرها الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 م، والذي بحجة إقامة الديمقراطية وحماية حقوق الانسان دمر مرتكزات ومؤسسات الدولة في العراق، وخدع العالم بديمقراطية مشوهة البنى والقيم كجزء لا يتجزأ من استراتيجية الفوضى الخلاقة التي بشر بها، مع ملاحظة مهمة للغاية هي: لم يكن ما حدث من مآسي للعراقيين في ظل الاحتلال الأمريكي وبعده ناجم عن خطأ الديمقراطية ذاتها، بل ناجم عن سوء نية وقصدية المحتل في عدم توفير مرتكزات نجاحها، بشكل يخدم مصالح العراق العليا.
والامر نفسه يصدق على القوى الإقليمية التي تداعت بعد الاحتلال بحجة حماية هذه الطائفة أو تلك، او حماية هذا الدين أو ذاك، أو حماية هذه القومية أو تلك…الخ للتدخل بالشأن العراقي، فهي جميعا وبدون استثناء لم يكن من أولوياتها تقديم مصالح العراق على مصالحها العليا، وما خطابها الذي يظهر عكس ذلك في بعض الاحيان الا جزء من استراتيجياتها الهادفة الى ضمان مصالحها، وتحقيق أهدافها القريبة والبعيدة في ومن خلال العراق.
ان وقوع العراق في دائرة التدخل الأكثر جاذبية في الشرق الاوسط هو عامل ضعف كبير رافق الصيرورة التاريخية له وعرقل –ولا زال-بناء دولته، وفكك نسيجه الاجتماعي، فقوى التدخل ترى هذا البلد دائما على أنه مجرد حجر دومينو في الطريق الى مد نفوذها الإقليمي والدولي، لذا تجدها حريصة على اضعافه بشتى السبل؛ حتى لا يهدد مصالحها تارة، ولا يخرج من دائرة سيطرتها ونفوذها تارة أخرى.
وتجارب العراقيين مع التدخل الخارجي بشعة للغاية، فهم يدركون بفطرتهم المتوارثة ان الأجنبي عندما يتدخل في شؤونهم لا تهمه مصالحهم، ولعل ذلك يفسر بشكل أو آخر ذلك السلوك الغريب للإنسان العراقي والذي يتجسد في ترحيبه الأولي بالتدخل الخارجي للخلاص من حكامه الطغاة او للخلاص من فوضى الانقسام والصراع المميت والعبثي الذي يعيشونه ثم انقلابه العنيد بعد ذلك على قوى التدخل رافضا الخضوع لها والاستسلام النهائي لسيطرتها، كما يمكن لهذا السلوك أن يجد تفسيره –أيضا- في ما يحمله سكان هذه الارض من بقايا ميراث اسلافهم العظماء الحضاري، مما يجعلهم يتصرفون لا شعوريا تصرفات الامم العظيمة التي لا تقبل الخضوع والاستسلام، فمهما اختلفت الأجيال البشرية زمانا، تبقى تحمل في اعماقها لا شعوريا طاقة وامجاد اسلافها، لذا كلما مالت الى نمط من السلوك لا يناسبها وخزتها طاقة الاسلاف رافضة القبول بهذا النمط ومانعة من الركون اليه طويلا.
ومن يتابع احداث التاريخ سيرى أن اسوء الأوقات بالنسبة للعراقيين هي تلك التي تشتد فيها ظاهرة التدخل الخارجي في شؤونهم، فهي تجلب الخراب لهم، كما تجلب النهب لثرواتهم والتمزق الاجتماعي، وتضعف تأثيرهم في محيطهم الإقليمي والدولي، أما أسعدها فهي تلك التي يكون التدخل الخارجي فيها بحده الأدنى. ولن تجد قيادة عراقية طامحة وكفوءة عبر التاريخ الا ووجدت أنها تضع في قمة اهتماماتها وأولوياتها العمل على الحد من هذه الظاهرة، في حين سترى أن القيادات محدودة الإمكانات والرؤية تعمل على العكس من ذلك تماما، فهي تفتح الباب مشرعا امام الآخرين للتدخل في شؤون بلدهم، بحجة الحصول على دعمهم في مواجهة خصوم محليين أو بحجة الانتماء اليهم ضمن سياق فكري وعقائدي معين تقع مفاتيح قيادته وحركته خارج حدودهم، ولكن سترى-أيضا- ان المحصلة النهائية لهذا النوع من القيادات هي انها تحكم على نفسها وشعبها ودولتها بالتضاؤل والخمول الحضاري.
لقد تظافرت العوامل الثلاثة المذكورة في أعلاه: الاستبداد السياسي، الانقسام والصراع الاجتماعي، والتدخل الخارجي، مع بعضها البعض، لتشكل عبر التاريخ عقبات كأداء تحول دون استعادة ارض الرافدين قيمتها الحضارية، وجعلت الشعوب التي سكنتها أسيرة البؤس والألم والتمزق، فضلا على تبعات ذلك القاتمة حيث يسود الفقر والجهل والمرض وغيره من مظاهر التردي والتخلف والتقهقر، ولن تقوم لهذا البلد قائمة ما لم يدرك أبنائه خطر هذه العوامل، ويمتلكوا الإرادة الكافية لتحييدها وتلافي ضررها.
عوامل قوة العراق
بعد استعراض العوامل الرئيسة التي شكلت نقاط ضعف للعراق قديما وفي الوقت الحاضر، صار لزاما ان نبين للقارئ الكريم طبيعة العوامل التي ترتكز عليها قوته ونهضته، فما هي هذه العوامل؟ وما تأثيرها؟
كما أن للعراق عواملا ثلاثة للضعف، فله –أيضا-عواملا ثلاثة للقوة هي:
أولا-وجود القيادة الاستراتيجية.
ان كثرة حديث عامة العراقيين عن حاجتهم الى قائد قوي شريف، وما تزخر به كتاباتهم الفقهية والسياسية -قديما وحديثا-من آراء وأفكار حول الحاجة الى المستبد العادل او الحاكم المستنير او الامام العادل وما شابه هي ليست مجرد ثرثرات مجالس اجتماعية او ترف مثقفين ومفكرين وفقهاء يسكنون في قصورهم العاجية، بل هو تعبير ضمني عن حاجة حضارية لديهم، من جهة، وعن إدراكهم لحقيقة تاريخية من جهة أخرى:
هي حاجة حضارية؛ لأن الأمم والشعوب لم ترتق الى اعلى مقامات المجد بدون تولي زمام القيادة فيها من قبل أفضل رجالها حكمة وخبرة وإدارة، فكثير منها كانت يوما ما رازحة في ظل التخلف والبدائية، لكنها اليوم تقدمت على غيرها بفضل قياداتها الجيدة، اذ من طبيعة القيادة الجيدة عندما تظهر في حياة المجتمعات انها تتراكم بمرور الوقت وتتحول من تفكير وسلوك فردي الى تفكير وسلوك اجتماعي ينتج المزيد من الخبرات والشخصيات الجيدة في القيادة والادارة، مما يحفز المجتمعات لتتناغم فكريا وسلوكيا معها بطريقة مناسبة، فتكون النتيجة حكاما ومحكومين يتحركون بالهام ورؤية واضحة للقيام بالأفعال المبدعة الضامنة للتقدم.
وهي إدراك لحقيقة تاريخية؛ لأن التجربة التاريخية لسكان العراق بينت ان تقدمهم وقوة شوكتهم دائما اقترنتا بظهور الشخصيات القيادية الفذة في حياتهم، فغالبا ما كان فعلهم الاجتماعي وحماستهم الفكرية والمعنوية والسلوكية تمثل انعكاسا لطبيعة من يقودهم، ولا غرابة في ذلك، فهذا ما يحصل في جميع المجتمعات ذات الطبيعة التقليدية، مع الانتباه هنا الى اننا لا نتحدث عن قيادات قوية فحسب، فالطغاة والمستبدين أقوياء –غالبا-ولكن سبق ان ذكرنا ان استبدادهم السياسي كان عاملا مهما ورئيسا من عوامل ضعف العراق سياسيا واجتماعيا، وأن ما جلبه بعض الطغاة للعراقيين من قوة في تاريخهم البعيد والقريب سرعان ما ظهر انها مجرد قوة مؤقتة وخادعة أقيمت على جماجمهم، وتغذت على تعاستهم ثم قادت الى دمارهم في حياة هؤلاء القادة او بعد موتهم بقليل، ان ما نقصده بالقيادة الاستراتيجية هنا ليس قوة جبروتها، بل كفاءتها الإدارية، وحكمتها القيادية، ورؤيتها الاستراتيجية، هي تلك القيادة التي تعرف اين تقف؟ وماذا تريد؟ وكيف تبلغ ما تريد؟ لتجعل بعد ذلك فعلها مقترنا فكرا وسلوكا بنهضة بلدها وشعبها.
ان ما أدركته القيادات الاستراتيجية الفذة التي قادت العراق في تاريخه وأهملته غيرها من القيادات الخائرة والفاشلة هو أن عليها القيام بخطوتين مهمتين لبناء عراق قوي هما:
الخطوة الأولى – وحدة المجتمع.
ان أول خطوة تقوم بها أي قيادة عراقية فذة هي توحيد سكان العراق والحفاظ على متانة نسيجهم الاجتماعي، اذ لولا هذه الخطوة لما تحولت بلاد سومر القديمة من دويلات صغيرة متنازعة ومتصارعة الى امبراطورية عظيمة لا زال العالم يقف منبهرا امام إنجازاتها. فسكان العراق أقوياء عندما يتحدون، اذ يتحولون من تبديد طاقاتهم على النزاعات والصراعات فيما بينهم الى توجيه تلك الطاقات باتجاه البناء والابداع والتنافس الإيجابي، لكنهم عندما يتفرقون، يصبحون ضعفاء جدا تعيبهم كثرة الانقسام والصراع والاستغراق في تفاصيل جزئية تعيق حركتهم الإبداعية وتعطل نهضتهم الحضارية.
وإذا كانت الوحدة قد تحققت في الماضي بفعل القوة القاهرة، فهي لم تعد كذلك في الوقت الحاضر، فالوحدة بالإكراه غير منتجة، وغير قابلة للاستمرار. وعليه يتطلب العمل لتحقيق الوحدة من قبل أي قيادة عراقية خلاقة فهما جيدا للاستراتيجيات الحديثة في إدارة التنوع والاختلاف وتطبيقها للوصول الى الوحدة بالتراضي في إطار دولة مدنية حقيقية.
الخطوة الثانية-تحقيق الاستقرار.
لقد اثبتت تجارب التاريخ ان العراقيين يتقدمون بسرعة مذهلة عندما يحظون بالاستقرار، فهم شعب حركي لا يقنع بما لديه، ويبحث دائما وبشكل محموم عن دور له، وهذا ما التفت اليه غوستاف لوبون عندما تحدث عن السومريين القدماء، فهم بسبب تنافسهم الخلاق ونزعة الابداع داخلهم قربوا السماء الى الأرض، واخترعوا الكتابة، وشيدوا بناء الحضارة، وهذا الامر لا يصدق فقط على سكان العراق القدماء، فالتأثير الإيجابي للاستقرار في تاريخ بغداد العباسية خلال الخمسين عام او أقل التي تمتعت بها بعد تأسيسها كانت كفيلة بجعلها حاضرة الدنيا التي تتغنى بها العصور الوسطى، ثم ما لبثت أن فقدت قيمتها الحضارية عندما دبت آفة عدم الاستقرار في مفاصلها المختلفة.
ان سكان العراق عندما يفقدون شعورهم بالاستقرار تجد نزعتهم الحركية الرافعة لهم نفسها تقودهم الى الانحدار، بسبب سقوطهم في الفوضى والصراع والتسافل الاجتماعي. ربما يرتبط جزء من تفسير ذلك بطبيعة الموقع الجغرافي للعراق، فوقوع هذا البلد في منطقة الاحتكاك الحضاري والثقافي الرئيسة في الشرق الأوسط يجعل سكانه في قلق دائم وشعور بعدم الارتياح والرغبة في اثبات الذات، فهي منطقة صدام بين الأفكار والعقائد والعادات والسلوك، ومن يسكنها يعلم تماما ان عليه القيام بالحركة والفعل الخاص به أو يكون مجرد انعكاس لحركة وفعل الاخرين.
الوحدة الحقيقية والاستقرار الطويل هما مفتاحا قوة العراق، وان غياب القيادة العراقية الاستراتيجية المدركة لهما ترك نتائجه السلبية على الدولة والمجتمع. ولكن إذا كانت القيادة الاستراتيجية في الماضي ارتبطت بوجود قائد فرد فذ يقود شعبه ودولته الى الامام، فان الوضع في القرن الواحد والعشرين تغير كثيرا، فالقيادة أصبحت مفهوما أكبر من مجرد وجود قائد استثنائي، فهي ترتبط اليوم بوجود مؤسسات حرة استثنائية تعمل بكفاءة على مستوى الرؤية والتفكير، ومستوى الأداء والانجاز.
وعليه يحتاج العراقيون اليوم الى قيادة استراتيجية تقودها مؤسسات كفوءة، فقيادة الفرد الكفوء الواحد تمت مغادرتها ربما الى غير رجعة، فقيادة المؤسسات الاستراتيجية الحرة والفاعلة يمكنها الحفاظ على وحدة واستقرار العراقيين، ووضعهم بأمان على مسار الابداع والتقدم من جديد، وهذا الامر يقتضي أن تتغير الاحاديث والرؤى الفردية والاجتماعية الباحثة عن القائد الشريف والامام العادل والمستبد المستنير لتصب في اتجاه البحث والمطالبة بالمؤسسات القوية العادلة والكفوءة، ليتناسب ذلك مع اتجاه حركة التطور البشري المعاصرة، فمن الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها أي مجتمع واي مفكر هي انشغاله بالبحث والتفكير عن حلول لقضايا معاصرة بعقلية قديمة تجاوزها الزمن.
ثانيا-الجيش القوي.
بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في التاسع من نيسان سنة 2003م قام بول بريمر بصفته حاكما مدنيا للعراق-آنذاك-باتخاذ أولى قراراته، الا وهو حل الجيش العراقي. لم يكن هذا القرار ناجما عن غباء من السلطة المحتلة أو تهورا وتخبط قصير الرؤية، كما صوره عدد من الخبراء وصناع القرار داخل الولايات المتحدة وخارجها، بل هو قرار ذكي ومقصود ومخطط له بعناية، فقوة العراق عبر التاريخ ارتبطت بامتلاكه لجيش وطني فتاك، وبقاء العراق قويا منيعا بوجه الطامعين لن يكون ابدا بدون وجود مثل هذا الجيش.
ان العراق لا يقع في أطراف العالم أو على حافة حضاراته الرئيسة، بل يقع في قلب العالم الاستراتيجي، وفي منطقة الصراعات الأكثر سخونة وقلقا واستمرارا، وبحكم موقعه الحرج هذا لا يمكنه الدفاع عن نفسه الا بامتلاكه جيشا محترفا شديد البأس، لذا تجد اختراع العراقيين القدماء للكتابة ارتبط باختراعهم للعجلة المحاربة، فالخط المسماري وعجلة القتال أسسا منطلقا رئيسا لبناء حضارتهم وتقدمهم على غيرهم، ولا يمكن ان نتصور اليوم إمكانية التفريق بين امتلاكهم لناصية العلم وقوة الجيش لاستعادة حضارتهم من جديد. هذه القضية التي ربما يستهين بها بعض زعماء العراق عديمي الفكر والنظر الثاقب لسبب أو آخر، يدركها المواطن العراقي البسيط بحكم ما ترسخ في تقاليده وعاداته المتوارثة من شعور بالأمن والسيادة والاستقلالية والمنعة في ظل وجود جيشه القوي، لذا ترى معظم العراقيين يحملون في داخلهم اعجابا وحبا لافتا لجيشهم، على الرغم مما قاساه الكثير منهم في بعض الأحيان من مشاكل على يده عندما تحكمت به قيادات مستبدة جعلت فوهات بنادق الجند موجهة الى صدورهم أكثر من توجيهها لحماية حدودهم، وقهر اعدائهم.
وتحول العراق الى دويلات قزمية تابعة كما هو الحال بعد سقوط بابل العظيمة، او الى قبائل وطوائف متناحرة كما هو الحال بعد سقوط بغداد العباسية، او الى أحزاب أوليغارشية ومليشيات مسلحة متعددة الانتماءات والولاءات تتصارع فيما بينهم على مراكز السلطة والنفوذ والثروة كما هو الحال بعد سقوط البعث يفقده ميزته الاستراتيجية وقوة دفعه الحضارية، وهذا ما انتبهت اليه جميع القوى المحيطة به على مر التاريخ، فهي لا تخشى من عراق ممزق متصارع لا يدرك أبنائه خصوصيته وقيمته، انما تخشى اشد الخشية من عراق تتوحد قواه البشرية في جيش وطني محترف؛ لأنه سيكون مقتدرا في المطالبة بدوره الطبيعي في تقرير مصيره ومصير الشرق الأوسط برمته، وهذا ما لا تريده جميع القوى الخارجية، بصرف النظر عن بعدها ام قربها من حكام العراق.
وعليه، فان ما جرى على العراق بعد الاحتلال الأمريكي من تدمير ممنهج لمصادر قوته العسكرية، ومؤسساته الأمنية، واثارة نعراته الدينية والمذهبية والقومية والقبلية والعشائرية، وتأجيج صراعاته السياسية، وتشتيت رأيه العام، وتمزيق لحمته الاجتماعية ما هي الا محاولات مدروسة لمنعه من استعادة عافيته وقوته من جديد.
لقد تقاطعت مصالح القوى الخارجية المتدخلة بالشأن العراقي فيما بينها في كثير من القضايا والمصالح، لكنها تضامنت واتفقت على هدف واحد الا وهو بقاء العراق ضعيفا منهكا وغير مستقر، ولا يمكن الخلاص من هذا الوضع الا بتوحد إرادة العراقيين وتوجيهها نحو امتلاك جيش وطني واحد قوي وشديد البأس، فقد كان الجيش عاملا من عوامل قوتهم تاريخيا وسيستمر اليوم وفي المستقبل.
ثالثا-الموقع الجيواستراتيجي.
يتكلم الكثير من العراقيين عن الاهمية الجيواستراتيجية لموقعهم الجغرافي، وهذا الكلام واقعي ولا تنقصه الأدلة الامبيريقية المؤكدة له، ولكنهم في الغالب يتكلمون عن تأثير الموقع الجغرافي لبلدهم بالنسبة الى غيرهم من القوى الإقليمية والدولية، ولا يتكلمون غالبا عما يوفره لهم من إمكانيات إيجابية هائلة، وما يقتضيه من سياسات وآليات عمل ملحة للتكيف معه وتحويله الى مرتكز لقوتهم واقتدارهم.
ان الافذاذ من القادة العراقيين القدماء أدركوا تماما القيمة الاستراتيجية لموقع العراق، فعملوا على توظيفها لمصلحة أهدافهم الكبرى، لذا تجد سرجون الأكدي قبل ثلاثة وعشرين قرنا من ميلاد السيد المسيح، يتحرك سريعا بعد توحيده بلاد سومر وأكد لغسل أسلحته في البحر السفلي (الخليج العربي اليوم) اولا، ثم لا يلبث كثيرا حتى يعبر بلاد الأرز (لبنان اليوم) لغسل أسلحته-أيضا- في البحر العلوي (البحر المتوسط اليوم) محافظا على مصالح امبراطوريته العليا من خلال ربط الخليج العربي بالبحر المتوسط، وليربط بذلك التجارة العالمية لحواضر العالم القديم اسيا (الهند والصين وغيرها) بالقارة الأوروبية، ومعها حتما يتحقق الارتباط بحواضر القارة الافريقية.
لقد كانت أهمية العراق بوصفه عقدة مواصلات عالمية حاضرة في جميع الممالك والدول التي سادت فيه، لذا ظهرت قديما على ضفاف نهره الكبير (الفرات) الكثير من الموانئ والمخازن التجارية ، ومخرت عبابه النواقل ناقلة بحرا ثم برا البضائع الدولية، ولم يخسر هذه الاهمية الا عندما تجاهلها حكامه -ضعفا وجهلا-وسمحوا لبلدان أخرى اقل منهم شأنا بأخذ ما هو حقهم ودورهم، ومع ذلك لم يفقدها تماما، اذ لا زال العالم يجد في العراق مركز جذب لربط المواصلات العالمية من خلاله، على الرغم من ظروفه الصعبة، لذا لا غرابة ان تجده محطة مهمة في الوقت الحاضر لمشروع الحزام والطريق الصيني الهادف الى الربط التجاري بين أسيا وأوروبا.
وما يؤسف له حقا سوء فهم زعماء العراق المعاصر لهذا الامر، وعدم قيامهم بخطوات عملية في الطريق الى استثمار موقع بلدهم استثمارا امثلا لتعزيز قوتهم، فهم يتفرجون تفرج العاجز على القوى القريبة والبعيدة وهي تتصارع فيما بينها راغبة أما للوصول الى المياه الدافئة في الخليج او الى مياه البحر المتوسط دون ان يحفزهم ذلك الى القيام بشيء ما، وكأنهم يريدون البقاء جزء من مشاريع الاخرين دون التفكير بامتلاك مشروعهم الاستراتيجي الخاص.
وعدم قيام العراقيين اليوم بما قام به اسلافهم لتحويل بلادهم الى محطة جذب متقدمة وآمنة ورخيصة للتجارة العالمية دليل واضح على عجزهم وقصور تفكيرهم وضعف قدرتهم في استثمار مرتكز أساس من مرتكزات قوتهم بشكل صحيح وتكييفه الإيجابي لمصلحة العراق وشعبه، بل ان اهمالهم لهذا الجانب كان من الأسباب الرئيسة التي جعلت الاخرين يتصرفون بشكل سلبي لإعاقة أي مسار تطلعي لهم في طريق الربط التجاري العالمي.
خلاصة القول: ان العراق لديه عوامل ضعف مزمنة، كما لديه عوامل قوة كامنة، ولا يمكن لسكانه –أي كانوا- استعادة دورهم الحضاري، وبناء دولتهم المقتدرة الا بتحييد عوامل ضعفهم بإيجاد العلاجات المناسبة للخلاص منها، واستنهاض عوامل قوتهم باستثمارها الأمثل لتحقيق مصالحهم العليا، وهذا –قطعا- سيتطلب درجة عالية من النضج لدى الحكام والمحكومين، وقرارا حاسما مستندا الى إرادة حازمة وواثقة بوقف عملية الانهيار والتداعي التي يعيشونها منذ وقت طويل، واستعدادا تاما لتحمل ضريبة التقدم والنجاح، اما ما عدا ذلك، فسيبقى مجرد ثرثرة حمقاء، وتكرارا مخيبا لمسار الفشل والاخفاق، وتيها في حلقة مفرغة لا نهاية لها من التقهقر.