عباس عبيد
كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية
(هلا بك يا الغالي هلا بك، مرحبا بين أهلك وأحبابك) بهذه الجملة الترحيبية المفعمة بالحميمية، والتي هي مطلع أغنية عراقية تمّ استقبال الحبر الأعظم، لحظة وصوله إلى مطار بغداد. كانت لحظة استثنائية حقاً، لحظة فرح حقيقي، بمشاعر عفوية صادقة. ولا أحد يليق به كلّ هذا الاحتفاء مثل قداسة البابا.
كان في خلفية المشهد رمزيات كثيرة. فلقد بدت المسافة التي اجتازها رأس الكنيسة الكاثوليكية من سُلَّم الطائرة حتى صالة استقبال كبار الضيوف طويلة ومجهدة لرجل يعيش برئة واحدة، ويبلغ الرابعة والثمانين من عمره. وقد شاهده العالم كيف كان يواصل المسير بدأب. فهو أعلن أنه جاء إلى العراق حاجَّاً. ومَنْ يريد الحجَّ على طريقة البابا فلن تثنيه عن نيته مخاوف صحية أو أمنية. ثم جاءت المفاجأة، فما أنْ دخل إلى صالة الاستقبال حتى بدا الفرح يعلو الوجوه، ويصاحبُ صوتَ الغناء المنساب بهدوء أخّاذ. فكأنَّ طريق الآلام الذي يتطلب الكثير من الصبر والتضحية، ستكون نهايته بشارة ومسرّات. علينا أنْ نعرف هنا أنه لم يعد من السهل في بلد عرف فيما مضى من أيامه حاكماً يجيد العزف على ثمان آلاتٍ موسيقيةٍ أنْ تشهد صالة مطار عاصمته الشهيرة (بغداد) صوت الغناء. حتى وإنْ كان بلحنٍ هادئ وكلام مُتَّزن، تردده – في رمزية ثانية – جموع تمثل فيما ترتديه من أزياء المكونات العراقية كافة. في الأقلِّ كان الأمر يتطلب من رئيس الوزراء العراقي أنْ يخرج عن طريقة أداء من سبقوه في المنصب. هو الذي حرص لحظتها على أنْ يُرسِل رمزية أخرى حين نزع الكمَّامة، ليقول لضيفه ولمواطنيه والعالم إنَّ شخص البابا لا يمكن أنْ يأتي منه إلا الخير.
زقورات وآباء مؤسسون
زرتُ الزقورة أيام دراستي الابتدائية. وقتها كانت إدارات المدارس لا تزال تحرص على تعريف طلبتها بماضيهم العتيد. لم يستغرق الوصول إليها من مركز مدينتي (بغداد) سوى نصف ساعة. لكني لا أتحدث هنا عن زقورة أور في مدينة الناصرية. فما لا يعلمه كثير من العراقيين، فضلاً عن سواهم، إنَّ تلك العمارة الرائعة من اللبن وطبقات الحصير، من الآجر والقير، والتي تشكّل برجاً هرمياً مخصصاً للعبادة بُنِي منها في مدن العراق المختلفة أكثر من عشرين نسخة. إحداها في بغداد (زقورة عكركوف)، ويعود تاريخها لثلاثة آلاف وأربعمئة عام. وبالاتجاه شمالاُ سيجد الزائر إنْ وصل إلى (قلعة الشركاط) بقايا زقورة آشور. فضلاً عن زقورة بابل، التي ألهَمَتْ كَتَبَة التوراة، فنسجوا أُسطورة (برج بابل) سَردِيَّة صراع البشر مع الآلهة، والمحاولة الأقدم لتفسير اختلاف اللغات بين الناس.
لكنَّ التوراة ستحكي لنا أيضاً عن سَردِيَّة تأسيسية أخرى، عن الأب المُؤسِّس للديانات التوحيدية الكبرى: (فَلا يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أبْرَام، بَلْ يَكونُ اسْمُكَ إبْرَاهِيم، لأَنِّي أجْعَلكَ أبَاً لِجُمْهُورٍ مِنَ الأْمَم) ((العهد القديم، سفر التكوين، 5:17)). وستنسبه ل(أور الكلدانيين). حسناً، ولكنْ أين تقع أور بالضبط؟ فبعد تلك الإشارة لن يكون في مقدور أحد مهما بلغ من العلم أن يعرف شيئاً ولو بسيطاً عن أور، أين موقعها بالضبط؟ مَنْ هم الذين بنوها ؟ ما حجم إرثها الثقافي؟ ستختفي تماماً، وكأنَّها لم تُوجد قط. لقد كنّا بالضبط أمام (أطلانطس)، أي أسطورة مدينة افتراضية فحسب. وقد استدعى الأمر عبور أكثر من ألفية، وظهور ديانتين إبراهيميتين جديدتين (المسيحية والإسلام)، وصولاً إلى العصر الحديث، لنعرف مكان مدينة أور، وننظف زقورتها الشهيرة من ركام أتربة أكثر من أربعة آلاف عام. وفي أثناء ذلك نتعرف على حكاية شعب أسس – ما دمنا نتحدث عن سرديات التأسيس – أهمّ ما يمكن أنْ يخطر في البال، مما يحتاجه الإنسان معنوياً ومادياً (الكتابة، تأسيس المدن، الأنظمة والتشريعات القانونية، فن العمارة، اختراع العجلة، الشعر الغنائي، الملحمة، الأمثال والحكم…إلخ). ومع ذلك كله، لم نكن قد سمعنا عن ذلك الشعب شيئاً من قبل هو الآخر. عن السومريين أتحدث. عن أولئك الذين يطيب لأشهر علماء السومريات (صموئيل نوح كريمر) أنْ يؤكِّد بالأدلة والبراهين في سائر مؤلفاته ريادتهم المتفردة، وسبقهم الاستثنائي. ويكفي هنا أن نتذكر ما أورده في كتابه الشهير (من ألواح سومر). لكن من سيرتبط اسمه بمدينة أور السومرية، هو عالم آخر، فبتكليف من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا سيقود (السير ليونارد وولي) فريقاً آثارياً للتنقيب في المدينة، لأكثر من عقد (1922 -1934)، وهو من سيخرج لنا من بين أطنان التراب القيثارة السومرية، وتمثال الكبش في الغابة، وخوذة الملك مسكلام دك، وحُليِّ الملكة بو – آبي (شبعاد)، وكنوز لا تصدق من علوم ومعارف وآداب. ويكفي أن نختصر ذلك كله بذكر كشفه عن المقبرة الملكية المذهلة بكاملها، التي لا تزال تثير شغف علماء الآثار والتاريخ، لما شهدته من طقوس الموت الشعائري للحاشية الملكية، من نساء وصيفات، ورجال يؤدون دور الحراس، وطاقم مشغول ببراعة فنّية مذهلة من الأغراض والمستلزمات المختلفة، لتؤمن لأصحابها رفاهية في العالم الآخر يُحسدون عليها حقاّ. ويبدو أنها لا تقلُّ عن تلك التي كانوا يتمتعون بها إبان حياتهم. ولنعرف أيضاً إنَّ مدينة أور كانت عاصمة بلاد ما بين النهرين، قبل أن يبزغ نجم بابل بكثير.
فقبل أربعة آلاف وخمس مئة عام هيمنت سلالة أور الأولى، فأسست المدينة التي ستصبح المتروبوليتان السياسي والديني والتجاري في الهلال الخصيب. إنها عاصمة الإمبراطورية، وعروس بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا)، في الجزء الجنوبي من العراق القديم. يعود الفضل في بناء الزقورة للملك الشهير (أورنمو) مؤسس سلالة أور الثالثة (2112 – 2004 ق.م) وهو مَنْ نجح باستعادة مجد المدينة، بعد تعرضها لأكثر من نكبة. وهكذا بدأت القاعدة المتينة للزقورة تتأسس، والبناء يعلو ويعلو. لا شكّ في أنَّ منظرها الشامخ بين الأراضي المنبسطة، وقربها من نهر الفرات، كانا يبعثان في النفوس الشعور بعظمة أور، ومجدها الباذخ، وقوة حاكمها الجديد. وهناك، في قمة الزقورة بالضبط، تمّ بناء معبد صغير للإله (نانا) إله القمر، ربّ أور وحاميها. إن العالم الذي تابع البابا فرنسيس وهو يقود لقاء الأديان في أور، إنما لمح في خلفية المشهد لا الزقورة مثلما بناها أورنمو، وإنما ما تبقى منها فحسب، أطلالها التي صمدت – فيما يشبه المعجزة – طوال أربعة آلاف عام أمام عبث الملوك، وتقلُّبات الطبيعة. في التالي كم هي المدة التي يستطيع أن يقاوم فيها بناء من الآجر واللبن فعل الرياح والمطر، والأجواء شديدة الحرارة التي تسود في جنوب العراق؟ لقد كانت الزقورة في الماضي أعلى وأجمل بكثير مما هي عليه الآن. كانت وهي الخالية من الغرف الداخلية، مُغلَّفة بالطوب المفخور. وقد تم العثور في محيطها على كثير من الطابوق الملون بألوان رائعة، والمصنوع بحرفية فنية. وربما كان هذا الطابوق الملوَّن قد غلّف مساحات واسعة منها، وليس معبد الإله فحسب. وتزينت سلالمها ومنحدراتها بالأشجار والورود. مما منحها نصيباً نادراً من المهابة، والجمال الباذخ. ولا مشكلة فيما يذهبُ إليه بعض الآثاريين والمؤرخين مِنْ إنّ الذي أتمّ مشروع أورنمو في بناء الزقورة، واستكمل بقية مخططاته العمرانية والاقتصادية والعسكرية هو ولده الملك (شولكي). ومن المُرجّح أنْ يكون ولع هذا الملك الأخير بالفنّ قد ساعده على تنمية إمكاناته للنهوض بإرث والده الكبير. ويكفي هنا أنْ نعرف أنَّ الملك (شولكي) لا غيره، هو مَنْ كان يمتلك موهبة فنية نادرة، مكّنته من إجادة العزف على ثمانِ آلاتٍ موسيقية.
أور أم المْكَيَّر؟
تفرض حركة التاريخ منطقها على الدوام. وتتوالى على الأمكنة أعراق وأديان وثقافات شتى. إنَّها تؤثر في عقول الناس ومشاعرهم، فتترسخ فيها تفاصيل جديدة. ثم يأتي دور الذاكرة ذات الصلة الوثقى بتشكّل الهوية. فالذاكرة تزدحم بين عهد وآخر بحكايات لم تكن في عداد المُفكّر فيه، وبأبطال جُدُد، ومُدنٍ مستحدثة تتشابك معها المصالح الاقتصادية والاجتماعية والروحية للجماعات. فليس من المستغرب بعد ذلك أنْ تكون المناطق الفاعلة في ذاكرة أهالي محافظة الناصرية التي تتبعها أور اليوم هي سوق الشيوخ والرفاعي والشطرة والعكيكة والفهود والجبايش، ولكنْ ليس أور التي ابتعد عنها نهر الفرات مغيراً مجراه، وصارت أطلالاً فوق الرمال. فلا عجب في أن تتوارى خلف ما يُعرف بتلّ المْكَيَّر. وأن يتوارى التلّ هو الآخر لنكون أمام (المْكيَّر) فقط، من القير/القار، الذي يتواجد هناك بكثرة. حتى إنَّ نسبة كبيرة من العراقيين يعرفون المْكَيَّر أكثر مما يعرفون أور. في الأقل هم سمعوا بالأولى بوساطة عنوان أغنية معروفة تعود لنصف قرن. شخصياً، لا أعرف بالضبط كيف جاز لبعضهم أنْ يسبغوا على تلك الأغنية سمة الحداثة، والتأسيس لها فوق ذلك! فهي أشبه ما تكون بالنواح. مع ما يتمتع به شاعرها وملحنها ومغنيها من مواهب. لستُ ضدَّ تصوير الأحاسيس الحزينة التي تنتاب عاشقاّ يودّع منْ يُحبّها وهي تهمُّ بركوب القطار؛ كما تصور ذلك كلمات الأغنية (لمحطة القطار وجود واقعي في أور/ المْكَيَّر). لكنّي أفكر الآن فيما يُعرف عالمياً ب (THE LAMENT FOR UR) أي (رثاء أور)، والذي لا يحظى عندنا بالشهرة ذاتها. إنَّه نصّ مؤلَّف ببراعة، معني بحدث عام لا خاص. فالمدينة التي عُدَّتْ عروس الجزء الجنوبي من العراق القديم، كانت عاقبتها أنْ دُمِّرَتْ في العام (2004 ق.م) على يد العيلاميين. وإنْ فضَّل الشاعر أنْ ينسب ذلك للآلهة الكبيرة (آنو وانليل). وكأنَّ مدينة عظيمة مثل أور لا يقدر على تدميرها سوى الآلهة. بل حتى الآلهة نفسها لن تجد ذلك أمراً سهلاً، فلا غرابة إنْ بكتْ بمرارة على ما فعلته بأيديها:
رِثاؤكِ مُرٌّ أليمٌ أيَّتُها المدينة
مدينة أور التي خُرِّبَتْ رثاؤها مُرٌّ أليمْ
كَمْ سَيظلّ ُرِثاؤك الأليمُ يُحزنُ سَيِّدكِ الباكي!
الرّبُّ الذي دمَّرَ بيتَهُ يُشاركُ مدينتهُ البُكاءَ والنَّدب…
بحسب صموئيل نوح كريمر الذي نقلنا عنه هذه الأبيات من كتابه الشهير(من ألواح سومر، ترجمة: طه باقر، طبعة مصر، 214) فإنَّ نص رثاء أور يتكون من إحدى عشرة قطعة تضمَّنتْ 436 بيتاً شعرياً، وهو يُعدٌّ في عرف الخبراء أقدم النصوص الأدبية في رثاء المدن. لنلاحظ إنَّ الشاعر الرافديني يكرر مفردة المدينة. ومن يدري؟ فربما كان يُوجّه خطابه للأحياء، لنا، وللأجيال التي ستسكن لاحقاً فوق أديم هذه الأرض، بأمل أنْ يفيدوا من درس بليغ باهظ التكلفة. درس أور الذي يتلخص بجملة مفادها إنَّ المدينة -أية مدينة حقيقية- بطبيعتها، ووظيفتها تقبلُ وتُرحِّبُ بالتعددية في الأديان والطوائف والإثنيات. وإنَّ هذه العناوين يمكنها أنْ تعيش متناغمة بطمأنينة وهناء. مثلما يمكنها التقاتل بعنف ووحشية. والأمر يتوقف في الحالتين على نمط الدولة التي نتحدث عنها. إنْ كانتْ تستندُ لأُسسٍ تجمع ولا تٌفرِّق، ولدستور يكفل الحريات للجميع، ويوفر لهم فرص العيش الكريم. هل صار ذلك مطلباً مستحيلاً في هذه البلاد العجيبة؟ لا أدري. لكنّي مُتأكِّد من إنَّ الجميع هنا لا يحلمون برفاهية حاكم موسيقار من طراز(شولكي). بل بثقافة تعايش وسلام ومحبة فحسب. ثقافة لا تجدُ في أغنيةٍ بريئةٍ أمراً يدعو للعجب.