المُدَوَّنَةُ الْمُغْلَقَةُ وَالْبَحْثُ العِلْمِيُّ

الْأُسْتَاذ الدكتور حَسَن عَبْد الْغَنِيِّ الأَسَدِيّ
جَامِعَة كَرْبَلَاء/ كُلِّيَّة التَّرْبِيَة لِلْعُلُوم الْإِنْسَانِيَّة
قسم اللغة العربية

يؤسـس مفهومُ(غلق المدونة) إطاراً للبحث العلميّ لفهم المدوّنات عبر إعطائها الاستقلال المعرفيّ أو العلميّ، وانتزاعها من الأحكام المُسبَقة في مرحلة فحص العينات وتحليل معطياتها أو مكوناتها. ونعتقد أنّنا بهذا ندعو إلى مرحلة جديدة من الوعيّ العِلميّ والحَضاريّ، يمثّل نقطة فارقة في فهمنا لتلك المدونات وأثرها العلميّ أو المعرفيّ إبداعاً أو تبعيّة. وأول تلك المدونات التي لمسنا معها نتائج هذا الغلق وفاعليته هي المدوّنة الأعلى شأنا والأرفع مكانة (القُرآنُ الْكَريمُ) المدوّنة الإلهيّة بنسيجها اللغويّ الخاصّ الذي فَارَق المعهودَ من نَسْج العربِ لكلامِها، فكان نزول القرآن لحظة مميزة في إظهار كنز لغويّ رسم أبعاداً لغويَّةً وتعبيريّةً أعادت للغة جمال أصولها فكان القرآن البناء المحكم المعجز بنمط لغويّ خاصّ اشتمل على ما أراده الله تعالى لخلقه ممّا يندرج تحت وظيفة القرآن الكبرى، وهي (هداية الخلق وبناء المجتمع على قيم حضاريّة وإنسانيّة هي الأكثر رفعة من كلّ القيم).. فكان الغلق ههنا واجباً للحفاظ على تلك الخصوصيّة، وتحصيل نتائجها.
ثمّ كانت المدونة الثانية كتاب سيبويه، مثَالاً للمُنتج البَشريّ الّذي عمد صاحبه فيه إلى صياغة نظريّة عامّة للبناء وللتفكير اللُّغويَّيْن فأضحى شرعة يرِدُها كلُّ مشتغلي البيان سواء أكان هذا البيان قرآنا أم غير قرآن.. أدباً أم لغةً أم بلاغةً؛ بل أضحى ما خطّه سيبويه آلة للتفكير، وعدةً للناظرين في القرآن الكريم والمُتدبّرين لمَعانيهِ ومناسبة ألفاظِه لتنوُّع موضوعاتِه وأَحكامِه. وعلى الرغم من هذا الأثر البالغ للكتاب ولصاحبه إلاّ أنّنا وجدنا بعد الغلق المنهجيّ سيبويه آخر مختلفاً عمّا تآلف عليه المعنيون قديما وحديثا، فخالفتْ نتائج قراءتنا ما ساد عن الكتاب وصاحبه لحقب متتالية امتدّت لألفٍ من السنين ومئاتٍ أخرى تلتها وكان فيها كشفاً عن نظرية نحويّة سيبويهيّة_ خليلية() اختفت وحلّت محلّها أخرى خلطت نظريته بتصورات أخرى وهموم مغايرة لهموم صاحبها وأستاذه (رحمهما الله).
من هنا نعتقد بأنّ(المُدَوَّنَةَ المُغْلَقَةَ) كانت ضرورة منهجيّة وتأطير مفهوميّ للكشف عن خصوصيات هاتين المدونتين وما اشتملتا عليه…
[ تنويه: إنّ إيراد هاتين العينتين معاً لا يعني مطلقاً مساواتهما في الاعتبارات الخاصة، وهناك من التفاصيل ما يجعل المدونة المغلقة ناجحة جداً مع القرآن الكريم ودون ذلك مع كتاب سيبويه، لتبعية صاحبه وتناصّه مع أساتذته ومع كثير من الوضع اللغوي السائد]().
وحتى لا نستغرق في الكلام هنا من دون بيان مصطلح (المُدَوَّنَة المُغْلَقَة) وما نقصده من العمل بروحية منهجيّـتها، نقول: إنّ المُدَوَّنَةَ المُغْلَقَةَ منهج في البحث العلميّ يتأسس على عدّ النصّ أو النصوص المكتوبة(كتاباً أو غيره) موضع البحث المدروس مدونة ناجحة في إيصال ما ترغب ببيانه الى المتلقي، ولها استقلالها المعرفيّ والعلميّ في ذلك عبر ما تنحو إليه من خصوصيةٍ في عرض معلوماتِها وايراد مصطلحاتها. ولكي يفهم المتلقي هذه المدونة حقّ فهمها ويعطيها حقّها لإبراز نجاحها عليه أنْ يضع آليات منهجيّة تؤدي إلى فهم المدونة من نفسها لا من خارجها عبر الشُراح أو النّقّاد أو التنَاصّ المعرفيّ مع ما يحيط بها. وعلى هذا نرى أنّه على المتلقي الواعيّ ألاّ يتولّع بإظهار تبعيّة هذه المدوّنة لمحيطها ذاك الذي وُلِدتْ فيه، كما أنّ عليه أنْ يستلَّها مِن تراكمات قد تكون كثيرة غلّفتها عبر مسيرتها التاريخيّة بما أحدث معها الخالفون من شروح وإفادات وتحليلات واستلال في حقل المدوّنة العلميّ أو في غيره.
مع التنويه على أنّ الهدف من ذلك لا يستبطنُ الغَضّ من جهودِ السابقين في المضمار العلمي للمُدوَّنة، بل تأجيل هذا الهدف والتّريّث في حضوره منهجيّا فينبغي في المرحلة الأولى الولعُ بالمدوّنة ذاتِها وإبرازُ هويتِها وفرادتِها؛ وفي مرحلة تاليّة يمكن تقديم الرَّصد بتبعيّة هذه المدونة أو صاحبها للسِّياق المعرفيّ أو التّخصُّصيّ القائم في وقتها… لأننا لو قدّمنا المرحلة التاليّة وجعلناه أولاً؛ لن نعدم الوقوع في سوء الفهم لكثير من جوانب المدوّنة وغمطٍ لحقِّها وفي إبداع طرحها وخصوصيّة ترتيب أفكارها وإيراد مصطلحاتها…
لكننا نريد هنا أن ننطلق بهذا الغلق المنهجيّ نحو ساحة أرحب فلا نقصِر تطبيقه على المتون المؤسّسة بل نريد أن يكون تأطيراً لعمل الباحثين، ولا سيما في التّخصُّصات الإنسانيّة [لأنّ تخصصات العلوم الصرفة تكاد تعتمد هذا الغلق على نحو محترف بسببٍ من طبيعة انشغالاتها الخاصّة بعيّنات بحوثها، وبظروف مختبريّة أو بيئيّة شديدة التعلّق بتلك العيّنات]. ذلك لأنّ التخـصّصات الإنسانيّة تتسم بميزة التراكم المعرفيّ الأفقيّ لا العَموديّ ومن سمات التراكم الأفقيّ أنْ تتجمعَ حول عيِّنة الدراسة سلاسلُ كثيرة من المعلومات قد لا يستطيع الباحث احصاءَها ولا تفحُّصها أو تمحيصها لكثرتِها.. ومن ثَمّ استولت على أغلب دراساتنا في هذه التخصصات في عالمنا العربيّ أو المنتج منه بالعربيّة، صفة الترهُّل أو التضخّم لاشتمالها على كمٍّ هائلٍ من المعلوماتِ القديمةِ والمعاصرةِ عبرَ مساراتٍ تمهيديّةٍ وتفصيليّةٍ يُمكن الاستغناء عنها بوصفها جزءاً من الاطلاع المُتخصّص في حقل الدّراسة، وليس في كتابتها أو إيرادها في الدّراسة المُنجزة ما يفيد في تطوير الدراسة؛ فهي حشوٌّ لا يغني وتكرار لا ينفع، وقد أضحت ظاهرة بيّنة لا نحتاج إلى التفصيل في إثباتها.
باعتقادنا أنّه للحدّ من هذه الظاهرة المتفشيّة في ميدان الدراسات الإنسانيّة ينبغي علينا العمل على إشاعة هذه المنهجيّة (أي: المُدَوَّنَة المُغْلَقَة) وإن لم يتمّ التقيّد بإجراءاتها الصارمة، وهذا هو الذي نعنيه بروحيّة المنهج وهو أنْ نُحدث غلقاً في تحليلاتنا وتأمّلنا لعيّناتِ دراساتنا، وأن نغـضّ الطرف عن التناصيّة المعرفيّة أو التاريخيّة وغلوائها وترك الوقوع تحت سطوتها أو قدسيّتها السلفيّة التي وسمت العقليّة الإسلاميّة السائدة عموما في مجالات فكريّة وعلميّة شتّى بُنيَت على سلفيّة خير القرون.. وبذلك نستطيع أنْ نقدّم قراءة للمدوّن ذاته لا لمتعلقات موضوعِه أو متعلقات صاحبِه وما حـفَّ بهما، فندع المدوّن ذاته يترافع عن قضيته.
على أنّنا لا نقلِّل من عظمة المنجز الذي قدّمه السّلف في مختلف العلوم والمعارف وطرائق الاستدلال والتحليل والاستنتاج ولكن أن نعترف بهذا الفضل شيء، وأنْ نعمد إلى حشر أكبر كمية منه في دراساتنا المعاصرة شيء آخر.. ونشير هنا إلى أنّ جزءاً كبيراً من الدّراسات الإنسانيّة، ولاسيَّما في علوم العربيّة والتاريخ وعلوم القرآن والتّفسير متعلّقة بالقدماء، ولهم فيها جهود كبيرة على المستوى العلميّ والحضاريّ. فهذه المجالات باعتقادنا هي بحاجة ماسّة إلى روحيّة الغلق المنهجيّ، حتّى يتمّ فهمُهما فهماً جيّداً وإعطاؤُها موقعها العلميّ وأثرها التاريخيّ الذي تستحقّ.
من هنا فنحن نعمل على إثارة الدوافع لدى الباحثين المعاصرين ولا سيما من بدأ مشواره البحثيّ حديثاً بأنْ تكون لعيّنة بحثه خصيصة الاهتمام، ومحور التحليل؛ وقاعدة التفريع والتفصيل؛ فيكون البحث عند ذاك أكثر إلحاحاً لإبراز المدوّنة (العيّنة) وخصائصها. ويجنب نفسه ألاّ ينشغل كثيراً بما يحِفُّ بعينته تلك من متعلِّقاتٍ أو مُقدماتٍ أوْ جهودٍ سابقةٍ فيجنّب دراسته مباحث وفصول وتفريعات تشغل معظم وقته، وقد لا تُبقي له من وقت يكفيه إلا جزءاً يسيراً لينشغل بعيّنة دراسته وقد وهَنَ وأعيا.
وتلك ظاهرة تمّ رصدها في الدراسات والبحوث المعاصرة، وكثيرا ما شكا أساتذة في لجان المناقشة للرسائل العلميّة أو في تقويمهم البحوث للنشر العلميّ وللترقيات العلميّة من كمية الترهل بتلك المقدمات والتمهيدات، وندرة الأمثلة المقدّمة من العيّنة واختصارها الشديد المخّل. وكثيراً ما يُسأل الباحث أين عينة دراستك من كلّ هذا؟!!. وأين أنت منها؟!! ومعلوم أن اختصاص الاهتمام بالعيّنة وتحليلها سيميط هذين السؤالين التعجبيين جانبا.. وبخلاف ذلك تجد تلك العيّنة تبدأ بالحضور في المبحث الثالث في بحث مكوّن من ثلاثة مباحث أو في الفصل الأخير من دراسة مكوّنة من ثلاثة أو أربعة فصول.. أو تجدها قد أصبحتْ ذيْلاً للمباحث أو للفصول؛ وذاك أمرٌ يؤدي إلى تشتُّت البحث وعنايته بأمر ثانويّ مع فقر التحليل والاستنتاج الذي يُقدَّم فيه. وفي آخر المطاف تُنجزُ الدراسة على حساب الرّصانة. الأمر الذي أضعف من قيمة كثيرٍ من الدّراسات والبحوث التي لا يشفعْ لَها انتشارُها أو نشرُها في المجلات العلميّة، فقد افتقرت الساحة العلمية عامّة الى رصانة كان ينبغي ألاّ تغيب عنها. ولا يخفى علينا هنا وجود عوامل أخرى لضعف هذه الرصانة بيد أنّنا لسنا بصدد رصدها، وبيان تأثيرها في هذا الجانب.
وحتّى لا نستغرق كثيراً في هذا الجانب المظلم من المنجز العلميّ فإننّا نقول على الباحث المتخصص بعد اكمال عدّته البحثيّة والتخصصيّة، أن يقرأ أكثر ممّا يكتب وأنْ يحلّل أكثر ممّا ينقلُ، ويدركُ جيّدا أنّه غير معنّيٍّ بأنْ يَتناصّ مع تلك المقدمات الكثيرة، فالانشغال بعينة الدراسة يوفّر على الباحث الوقت للتأمّل فيها وتحليلها والاستنتاج منها.. وأيضا الاقتصاد في المساحة الماديّة للمكتوب واكتناز المفيد في ظلّ تَوسُّعٍ في مساحتِه الإدراكيّةِ.
إنّ علينا في مرحلة الفَحْص والتّحليلِ النظرَ إلى عيّنة الدّراسة بوصفها جوهرةً مكنونةً يرادُ منّا تقييم ثمنها بدقّة، فعلينا السّعي جاهدين إلى الكشفِ عن كلِّ تفصيلاتِ هذه الجوهرة والوَلعِ بدقائقها وكراهيَّةِ عموميات يشاركنا بها كثيرون، ومن ثَمَّ نَنظرُ نحن وغيرنا من المشترين لمثل هذه الجوهرة (وهي المُدَوّنة) وإلى نسقيّـتها مع محيطها بما تقيمُهُ من علاقات التّضامّ والتّعاضد والمُفارقة والتّناصّ المرضيّ أو غير المرضيّ وغير ذلك من علاقات.. كلّ ذلك مَع من يشاركُنا هذا الكشف الذيّ لن يتأسس إلّا على ما نقدّمه في مرحلة الغَلْقِ المنهجيّ لعيّنتنا من تفصيلات عبر إمعان الفحص والتحليل.
الهوامش
() لا نعتدّ بالزمن ههنا فلم نقل خليلية_سيبويهية، بل كان اعتدادنا بالمنتِج لعلم أستاذه المُبدِع فيه.
() مما تقدّم يُلحظ أنّ توظيف هذا المنهج تمّ في مسارين، المسار الأول: مسار لغـويّ وذلك في أطروحتي في الدكتوراه التي حملت عنوان(مفهوم الجملة عند سيبويه بالجامعة المستنصريّة 1999) وطبعت بدار الكتب العلمية ببيروت 2007.
المسار الثاني: مسار قرآنيّ لـصياغة منهج لتفسير القرآن بالقرآن نفسه، فقد وجدت أنّ هذا الضرْب من التفسير يفتقر الى منهج منضبط على الرغم من قِدم الإشارات إليه في مجال فهم الآيات القرآنيّة. وأنجزتُ في ذلك مجموعة من البحوث التي اهتمّت بالجانب الدلاليّ لألفاظ القرآن الكريم، وعلاقاتها اللغويّة داخل هذه المدونة، وقد أخرجتُها في كتاب ابتدأته بفصل لبيان منهج التفسير الذي ينبغي أنْ يُعتمد. ينظر كتاب: مَنْهَجُ المُدَوَّنَةِ المُغْلَقَةِ، مباحث تأسيسيّة لتفسير القرآن بالقرآن2017.