أ.د. حسن عبد الغني الأسدي
جامعة كربلاء/ كلية التربيّة للعلوم الإنسانيّة
على أعتاب نهاية السّنة الميلاديّة وقدوم الأخرى ترى ذكر نبيّ عيسى (عليه السلام) يتجدّد على الألسنة في ربوع العالم ومنها تلك البلدان التي تدين بالديانات الأرضيّة.. ويستدعي عندنا نحن المسلمون تداعي ذكريات من نوع آخر، فقد جعل الإسلام منه (عليه السلام) علامة على تحوّلات مهمّة ستشهدنا البشريّة في المستقبل؛ ذلك بأنّ الأحاديث النبويّة المباركة قد أخبرت بعودته (عليه السلام) إلى الدنيا مساندة للمهديّ من آل محمّد (عليه وعليهم السلام). لكن هذا الأمر الصّريح والواضح في الأحاديث، ليس كذلك عند المفسّرين أو المحدِّثين أنفسهم بمعنى أن تلك الأحاديث، وإن ذكرت عيسى مع المهديّ ألا أنّه تمّ تأطيرها بأنّ نزوله (عليه السلام) علامة على أزوف يوم القيامة، لورود لفظة السّاعة في تلك الآيات والأحاديث؛ ولا سيّما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ {الزخرف/61}.
والعِلْمُ كما ذكر الأصبهانيّ: ((الأثر الذي يُعْلَمُ به الشّيء كعَلَم الطّريق وعَلَم الجيش، وسمّي الجبل عَلَماً لذلك، وجمعه أَعْلَامٌ، وقرئ: ﴿وإنّه لَعَلَمٌ للسّاعة﴾، وقال: ﴿وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ﴾ [الشورى/32]، وفي أخرى: ﴿وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ﴾ [الرحمن/24]. والشّقّ في الشّفة العُليَا عَلَمٌ، وعَلَم الثّوب، ويقال: فلان عَلَمٌ، أي: مشهور يشبّه بعَلَم الجيش)) (المفردات في غريب القرآن:581).
قال الرازي في مفاتيح الغيب: ((وَأَنَّهُ أي: عيسى لَعِلْمٌ لّلسّاعَةِ شرط من أشراطها، تُعلَّم به، فسمي الشّرط الدّال على الشيء عِلماً لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس لَعِلْمٌ وهو العَلامة. وقُرئ لعلم وقرأ أُبيّ لذكر. وفي الحديث (أنّ عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدّسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح، والإمام يُؤم بهم، فيتأخّر الإمام فيقدّمه عيسى ويصلّي خلفه على شريعة محمد (صلى الله عليه[وآله] وسلم) ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البِيَع، والكنائس، ويقتل النّصارى إلا مَن آمن به. ﴿فَلاَ تَمْتَرُنَّ﴾ بِهَا من المرية وهو الشك وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي وشرعي هَذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ قد بانت عداواته لكم لأجل أنّه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور))[مفاتيح الغيب:27/191].
وقال الطباطبائي في الآية: ((ضمير “إِنَّهُ” لعيسى (عليه السلام) والمراد بالعلم ما يعلم به، والمعنى: وإن عيسى يُعْلَم به السّاعة في خلقه من غير أب وإحيائه الموتى فيعلم به أنّ السّاعة ممكنة فلا تشكّوا في السّاعة ولا ترتابوا فيها البتّة. وقيل: المراد بكونه عِلْماً للسّاعة كونه من أشراطها؛ ينزل على الأرض فيُعلَم به قُرْبُ السّاعة. وقيل: الضمير للقرآن وكونه علما للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء. وفي الوجهين جميعا خفاء التفريع الذي في قوله: ” فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا”)) [الميزان في تفسير القرآن: 18/119].
فما ذهب إليه الطباطبائي أوّلا من كون الضّمير في (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) يعود على عيسى (عليه السلام) هو الظّاهر والمتبادر؛ لظهور سياق الآيات الّذي يقول إنّ الضّمير يعود على عيسى لا على غيره، قال تعالى:
﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ*وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ *إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ *وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ*وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف:57-61].
ولكن يبدو ههنا تعبير أكثر دقّة ينبغي علينا تأمّله، وهو أنّ عيسى(عليه السلام) أكثر قربا للسّاعة من كونه علامة عليها، فتعبير ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ يعني أنّ المعرفة به في ذلك الوقت ستكون معرفة للسّاعة نفسها، وفي ذلك لمحٌ لمن لا يعرف السّاعة، بل يعرف عيسى (عليه السلام) فيكون بوجوده معرفة هؤلاء لأمر لم يكونوا يعلموه من قبل أو نحو ذلك، ولذا جاءت القرينة ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ فالجملة توجهت نحو عدم الشّك بالسّاعة لا به.
ويلحظ أنّ كثيراً من المتقدِّمين ومثلهم من المتأخّرين كما ورد في نص الطباطبائيّ أنهم رأوا أنّ من المحتمل أن يكون الضّمير في “إنّه” يعود على القرآن أو القيامة، فذكر الشيخ آية الله الصّافي في منتخب الأثر: ((أقول لا ريب في أنّ ظهور المَهْدِيّ(عليه السلام) ونزول عيسى(عليه السلام) بل وبعثة رسول الله النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن عليه من علامات السّاعة، كما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: بعثتُ أنا والسّاعة كهاتين، ولذا قال بعضهم: إنّ الضمير في إنّه يعود الى القرآن، كما قال بعضهم: إنّه يعود الى عيسى (عليه السلام))). وقال العلامة ابن عاشور: ((وَضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ مُرَادٌ بِهِ الْقُرْآنُ وَبِذَلِكَ وَيُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ [الزخرف43] وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.. وَمَعْنَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْقُرْآنَ عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالدِّينِ الْخَاتَمِ لِلشَّرَائِعِ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ إِلَّا انْتِظَارُ انْتِهَاءِ الْعَالَمِ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ مِنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى مُشِيرًا إِلَيْهِمَا)) [التحرير والتنوير:25/242-243].
فقد أبعدوا كثيراً في الذهاب بالضمير إلى دلالته على نزول القرآن أو بعثة الرّسول علما للسّاعة (وهي القيامة عندهم).. ذلك لأنّ المتصوّر من العلامة أن تكون مقاربة في زمنها لما تدلّ عليه، لا أن يكون بينهما آلاف السّنوات. ولكنّنا سنقارب فهم هذا المقطع من الآية عبر ما يأتي:
فقولهم بأنَّ السّاعة تعني يوم القيامة، وهو أمر لا نقرّهم عليه؛ فقد أثبتنا في بحوثنا أنّ السّاعة في القرآن الكريم، عبر منهج لتفسير القرآن بالقرآن تعني المهديّ (عليه السلام) لا يوم القيامة. ومِن تتبُّع موارد لفظة الساعة قرآنيّاً، واعتماد السّياقات اللفظيّة المتعدِّدة وبالاقترانات أو بالمصاحبات اللفظيّة للسّاعة وجدنا: أن السّاعة عَلَم دالّ على عاقل مفكّر مرتبط بالله تعالى، ويكون على يديْه الحساب والمجازاة على الأرض وإنصاف الذين آمنوا والتّصدي للمجرمين وللأحزاب.. ويكون خروجه على هؤلاء بغتة، وهم لا يشعرون؛ فالاستعمال القرآني للفظة السّاعة قد انتقل بها الى حقل آخر هو حقل العلميّة على العاقل، على حين أن لفظة (ساعة) النّكرة بقيت في إطار الدلالة المعجميّة أو العرفيّة بدلالتها على قطعة من الوقت؛ فالسّاعة بدخول (أل) استعملت بدلالة تطوريّة واضحة تشبه ما جرى لكثير من الألفاظ التي عرفت بالألفاظ الاسلاميّة.
فالسّاعة في القرآن قادرة على المجيء والقيام والإتيان؛ قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾[الروم:55].
وقال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾(الأنعام31).
وهي تأتي أعداءها بغتة وهم لا يشعرون، وهي تُرى في الدّنيا لقوله تعالى:﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا الســاعة أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْـرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُـمْ إِذَا جَاءتْــهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾(محمد18) فإنّ الفعل يَنظُرُونَ اُستعمل في القرآن الكريم للدّلالة على إيقاع النظر من العين، وجاء مع السّاعة في موردين، فدلّ بذلك على أنّ السّاعة كيان ماديّ قابل للرؤية البصريّة.
وقد كانت لنا في سورة الزّخرف وقفة مفصّلة تعلّقت ببعض علامات ظهور الإمام المنتظر التي جاءت الأحاديث لتقول إنّ نزاعا ينشبّ بين الأحزاب المخالفة للخطّ الإلهيّ، فتكون تلك المنازعة والاختلاف اللحظة المناسبة لبداية التّغيير نحو العدل، وتحقق علامة هي شرط من أشراط قيام المهديّ، وهي علامة(اختلاف بني فلان) وسقوط دولتهم، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ {الزخرف/65-66}
فما إنّ تختلف هذه الأحزاب التي تعبّر عن مجموعة من القوى المضادّة لخطّ الأنبياء وكثيرا ما يكونون مشروعاً مضادّا لخطهم وكان امتدادهم عند بعثة النبيّ بتجمعهم في غزوة الأحزاب وقد خصّهم القرآن الكريم بسورة ” الأحزاب”؛ فتكون لحظة انشغالها باختلافها البينيّ لحظة بداية التّغيير، وسلب هذه القوى القدرة على التّصديّ للمهديّ فهو ﴿يَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. مع ما يقوي ذلك من ظهور مصاحبات لفظيّة في أحاديث الظهور تتناظر مع ما جاء في آيات الساعة، وذلك أمر مهم لتأكيد الترابط الموضوعيّ بين الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة، بل صحة الأخيرة اعتماداً على مبدأ عرض الأحاديث على القرآن؛ ومن تلك المصاحبات لفظة بغتة، فقد ظهرت مع علامة اختلاف بني فلان كما في الحديثين الآتين:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) على منبر الكوفة: ((إنّ الله (عزّ وجلّ ذكرُه) قَدَّر فيما قدر، وقضى، وحتم بأنّه كائن لابدَّ منه أنّه يأخذ بنى أمية بالسّيف جهرة، وأنّه يّأخذُ بني فُلانٍ بَغْتةً)) (الغيبة النعماني:256)، وقال الإمام: ((فيملأ الارض قسطا وعدلا كما مُلِئت جَوراً وظُلماً، قال فقلتُ له: يا بن رسول الله فداك أبي وأمي، أيعلمُ أحدٌ من أهلِ مكة من أين يجئ قائمكم إليها؟ قال: لا ثم قال لا يظهر إلا بغتة بين الركن والمقام))(معجم أحاديث الامام المهدي عليه السلام:3/492 ح1061)).
ومن ذلك أيضا ((الامام الباقر (عليه السلام) ” وأما قوله: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، يعني قيام القائم)) وقد جاء في رسالة المهديّ (عليه السلام) إلى الشيخ المفيد (رحمه الله): ((فليعملْ كلُّ امرئ منكم بما يُقرِّب به من محبتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتِنا وسخطِنا، فإنّ أمرَنا بغتةً فجأة حين لا تنفعه توبةٌ، ولا ينجيه من عقابنا ندمٌ على حوبةٍ والله يلهمكم الرُّشدَ)) (معجم أحاديث الامام المهدي عليه السلام:4/462 ح1420).
فما قدّمته الآيات القرآنيّة من سمات للفظة السّاعة التي جاءت في أربعين مورداً قرآنيّا تناظر مع ما قدّمته الأحاديث الشريفة من أوصاف المهديّ(عليه السلام) من آل محمّد الذي بشّر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وآل بيته عليهم السلام، وبيومه لتحقيق المشروع الإلهي وهو الاستخلاف الإلهي لخليفته على الأرض وهو وعد من الله لا بدّ آتٍ لا محالةَ، وذلك صريحٌ وكثيرٌ في مرويات السّنة والشّيعة في الملاحم والفتن وعلامات آخر الزمان، كما أنّ ليومه إرهاصات وأحوال يمكن الوقوف عليها في الآيات القرآنيّة الكثيرة التي اعْتنَت ببيان أحوال هذه السّاعة.
ومن هنا فليس من الصحيح أن يُقرن أمر نزول عيسى بيوم القيامة، ولاسيّما أنّ الأحاديث عندما تذكر عيسى (عليه السلام)، بأمور دالّة على نشر العدل وقتله أو معه المهديّ صاحب أعظم الفتن، وهو الدجّال؛ مع وقوفه خلف المهديّ عندما يقيم الصلاة في بيت المقدس.. لذا فمن التكلّف أن يكون عيسى عِلْماً للقيامة.
ولو كان المراد من السّاعة القيامة لجاز لنا أن نقول: إنّه لا خصوصيّة لاقتصار ذلك على المسيح (عليه السلام)، ونرتضي قول من رأى أنّ الضّمير في “إنّه” قد يعني القرآن، وقد يعني الرسول (صلوات الله عليه وآله)، من نحو ما ذكرناه آنفاً.
والأمر الملفت للنّظر أنّنا وجدنا أوائل المفسرين يثبتون أمرين مهميّن يعضدان فحوى مقالتنا ومضمون ما توصلنا إليه في بحوثنا فقد وجدناهم يصرِّحون بوضوح بأنّ الآية نزلت في المهديّ وبذا فالضّمير في “إنّه” يعود على عيسى، وأنّه سيكون مع المهديّ مسانداً في نهضته فقد ذكر الشيخ الصافي الكلبايكاني: ((قال ابن حجر في الصواعق [2/476] في الفصل الذي عقده في الآيات الواردة فيهم (يعني: أهل البيت) الآية الثّانِية عشرة: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسّرين: إنَّ هذه الآية نزلت في المَهْدِيّ.. وقال في إسعاف الراغبين قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسّرين في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ انَّها نزلت في المَهْدِيّ، ومثله في نور الأبصار وبعد خروجه تكون أمارات الساعة وقيامها [نور الإبصار 346-347]، وفي ينابيع [2/453]: ((الآية الثّانِية عشر ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾ قال مقاتل بن سليمان ومن تبعَه من المفسِّرين: إنّ هذه الآية نزلتْ في المَهْدِيّ)) [منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر:2/42]
وفي هذا السياق يأتي قول الإمام الصادقّ (عليه السلام) ليزيل أي غموض قد يعتري هذه الدلالة بنصّه الصّريح على أنّ السّاعة هي المهديّ (عليه السلام)، فقد نقل الحليّ: ((عن المفضل بن عمر قال: سألت سيدي الصّادق (عليه السلام): هل المأمول المنتظر المهديّ (عليه السلام) من وقت موقّت يعلمه الناس؟ فقال: حاش لله أن يوقّت ظهوره بوقت يعلمه شيعتنا. قلت: يا سيدي ولم ذاك؟ قال: لأنّه هو السّاعة الّتي قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الآية، وهو الساعة التي قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ (النازعات42) وقال: ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾(لقمان34والزخرف85) ولم يقل إنها عند أحد، وقال: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا(محمد18)الآية وقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾(القمر1) وقال:﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ*يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ (الشورى18))[مختصر بصائر الدرجات: 398-399].
ولكن على الرغم من هذا النّصّ الصّريح والمفصّل وأنّ حديث الصّادق هو حديث أجداده وهو حديث عليّ عن رسول الله(صلوات الله عليه وآله) بسلسلته الذهبيّة المشهورة عند المحدثين من السّنّة والشّيعة، ومعه أحاديث أخرى، مع صريح كلام أوائل المفسّرين في أنّ الآية نزلت في المهديّ إلا نرى أنّ الغلبة كانت باتّجاه تغييب دلالة السّاعة هذه، ومعها هذا الموضع المتعلّق بروح الله ونبيّه عيسى(عليه السلام)؛ وحلّ يوم القيامة بديلا عنها لأربعين موضعاً في القرآن الكريم هي مواضع استعمال لفظة الساعة، وبعض تلك الموارد كانت له هيمنة سياقيّة على كثير من الآيات بمعنى أنّنا بصدد عشرات من الآيات القرآنيّة تتحدّثُ عن المهديّ، فتمّ النّظر إليها وتغيير فهمها نحو يوم القيامة.
وأضحى من البديهيّ أنْ نجد المحدِّثين والمفسّرين لا يرون إلزاما لربط الآية بالمهديّ على الرغم من أنّ الأحاديث عندما أتَتْ على ذكر عودة المسيح لم ترسم أهوالاً للقيامة بل ترسم صورة لانتصار عظيم عندما يتمّ القضاء على مركز الشّرور، وهو الدّجال. وإنّ تأييد عيسى عليه السلام للمهدي سيكون واضحاً، بل سيكون من أتباعه الّذين سينتصر بهم لتحقيق مشروعه، وهو انتصار للإسلام، وحجة هي أقوى حجة على من يدعي أنّه من أتباعه في ذلك الوقت.
ومن ثمّ ستبرز الحكمة الإلهيّة في اِدّخار المسيح (عليه السلام) لنصرة الإسلام المحمديّ بنصرة حفيد رسول الله (صلوات الله عليه وآله) ممّا يمكن أن نستشفه من كثرة أتباع المسيح في آخر الزّمان أو قوتهم، وهو ما نعيشه في هذه القُرون، من تمتّعِهم بالقوة الغاشمة الّتي تقرر مصائر الشّعوب المستضعفة، وتحكم قبضتها الحديديّة على مقدراتهم وثرواتهم؛ حتى يكون الويلُ كلُّ الويلِ لمن يريد التمرّد على قوتهم وقرارات أمميتهم.
يعني ذلك أن عيسى (عليه السلام) سيقوم بوظيفة مهمة في هداية هذه الأمم ودخولها تحت لواء المَهْدِيّ (عليه السلام) وما يزال أتباعه إلى وقتنا هذا يقولون بأنّه المخلّص؛ لكننّا في ضوء النظرة الإسلاميّة نقول إنّ الخلاص سيكون بالتسليم لقيادة المَهْدِيّ حفيد رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله).. فوجوده عنئذٍ لطف إلهيّ بالشعوب المسيحيّة للتصديق بمَن سيتبعه عيسى ويصلي خلفه. وقد قال تعالى على لسانه في أول كلام له وهو في المهد: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا {مريم/32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ {مريم/31-34}. مع ملاحظة أن أوّل الموضعين لذكر اختلاف الأحزاب جاء في عقب هذه الآيات بقوله: ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ {مريم/37} على نحو ما ذكر في الزخرف.
فممّا يأتي المفسرون على ذكره عند الآية ما يدلّ على التخلص من الظلم وقيام العدل من نحو ما ذكره الزمخشري بقوله: ((﴿وَأَنَّهُ﴾ وإن عيسى عليه السلام ﴿لَعِلْمٌ لسَّاعَةِ﴾ أي شرط من أشراطها تعلم به، فسمى الشرط عِلْماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس: لعَلَم، وهو العلامة. وقرئ (للعلم) وقرأ أبيّ: لذكر، على تسمية ما يذكر به ذكراً، كما سمي ما يعلم به علماً. وفي الحديث:((أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة: يقال لها أفيق وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجال، فيأتي بيت المقدس والنّاس في صلاة الصّبح والإمام يؤم بهم، فيتأخّر الإمام فيقدِّمه عيسى ويصلّي خلفه على شريعة محمّد عليه الصّلاة والسّلام، ثم يَقتلُ الخنازيرَ ويكسِرُ الصليبَ، ويُخرِّبُ البِيَع والكنائس..))(الكشاف 4/ 264).
وقد عقد المحدِّثون فُصولاً وأبواباً يذكرون حوادث تلك الحقبة، وفي بعضها التصريح بأنّ إمام الصّلاة هو المهديّ (عليه السلام) [ينظر: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر:2/342 وذكر فيه 36 حديثا]. وقد ذكر في أثناء تلك الأحاديث الآية القرآنية محلّ البحث.
إنّ كلّ ما مضى ليؤكد أنّ عيسى هو عِلْم للمَهْدِيّ لا ليوم القيامة، وهو جزء من التّحرّك الذي سيقوم به المَهْدِيّ بعد دخوله بلاد الشّام، ومن ثمّ إلى كلّ بقاع الأرض. ولم يقتصر الأمر في ذكر عيسى (عليه السلام) على أنّ هناك من أنكر مسألة رفع عيسى (عليه السّلام) ثم نزوله، وحاول توجيه الآيات والأحاديث توجيهاً آخر، وقد ردّ عليهم جملة من العلماء، ومنهم الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام للدولة العثمانية من أهل السنة، ومن الشيعة الشّيخ محمد جواد البلاغيّ وفي ردّهما تفاصيل مفيدة، وبيان للآيات الدّالّة على الرّفع والنزول. وقد ذكر ذلك صاحب (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر:3/297-317) في باب (حول حياة المسيح عيسى (عليه السلام).