أ..د.حسن عبد الغني الأسدي
كلية التربية للعلوم الانسانية / جامعة كربلاء
مثّل تدريس النحو وتعليمه معضلة على مرّ عصوره، وحسبك فيما مضى أن بعض المواضع من الكلام صرّح بعض العلماء أنّه لم يفهمها إلّا الخليل وسيبويه، وهذا الأخفش الأوسط الراوي الوحيد لكتاب سيبويه، وكان زميلا لسيبويه في حلقة الخليل ذكر أنّه بينا هو عند الخليل إذ: ((جاء سيبويه فسأل الخليل عن مسألة ففسّرها له؛ يقول الأخفش: فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له(يعني: سيبويه) في الطريق. فقلت له: جعلني الله فداءك، سألتَ الخليلَ عن مسألة، فلم أفهم ما ردّ عليك ففهِّمنيه. فأخبرني بها، فلم تقع لي ولا فهمتهما. فقلت له: لا تتوهم أنّي أسألك اعناتاً فإنيّ لم أفهمها ولم تقع لي. فقال لي: ويْلك، ومتى توهّمْتَ أننّي أتوهّمُ أنّكَ تُعنتني. ثُمّ زجرني وتركني ومضى)) (من أعلام البصرة سيبويه:38). وهناك كثير من هذا؛ بل برز مسلك لبعض العلماء ممن كان يتعمّد الإتيان بما يصعب فهمه، ليكون طريقاً لنيل حاجتِه من المال. يضاف على ذلك ما نعانيه في العصر الحديث من بُعْد السياسات الحكوميّة للدّول العربيّة عن أنْ تولي الاهتمام لهذه اللغة الدينيّة والقوميّة الضاربة في جذورها المقدسة بقرآنها التي أبقاها حيّة به من بين لغات كثيرة انقرضت أو تغيَّرت تغيراً كبيراً.
ولا يمكننا في هذه العجالة أنْ نأتي على كلّ ما يعانيه علم النّحو ودارسه في المجال التّعليميّ، إلا أنّ ذلك لا يمنعُنا من الاقتصار على محور مهمّ من محاور علم النّحو هو محور منهج تعليم النّحو.
من الملاحظ أَنَّ الْاِتِّجَاهَ السَّائِدَ فِي تَعْلِيمِ النَّحْوِ المؤسس مُنْذُ قُرُونٍ يَعْتَمِدُ طَرِيقَةَ تَقْريرِ الْقَوَاعِدِ وَتَلَقِّيهَا عِبْرَ مُؤَلِّفَاتٍ قَدْ نحت إلى رصد القواعد والاتيان بأمثلة مصنوعة أو شواهد شعريّة و قرآنيّة، ولا سيّما في كُتُب متأخري النُّحَويين مِنْ أَمْثَالِ (اِبْنِ مَالِكٍ واِبْنِ هشامٍ وَأبي حيّان وَاِبْنِ عقيلٍ، وغيرهم) الْمُجْمَلَةُ منها وَالشُرُوحَات المفصّلة والحواشي المتزايّدة. وهو اتّجاه هيمنَ طويلا على تلقي النّحو منذ قرون متمادّة؛ لكن كانت النتيجة التي نعيشها هي الإعراض عن النّحو قبل البدء برحلة الطالب في أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلاميّة!، وأن يعيش نكوصاً في دروسنا وعند طلبتنا وتغليفه بغلافٍ من التّعسّر!
وَقَدْ سَعَى كَثِيرون إلى اجتراحِ حُلُولٍ ووضع مقترحات تكون السبيل للانتقال بالنحو وتدريسه الى مرحلة جديدة تمثل رؤية صاحبها الناجحة في هذا السبيل؛ وقد تمّ ادراج هذه المحاولات في إطارِ ما أطلق عليه بـ(تَيْسير النَّحْوِ). الذي على الرغم من مضيِّ أكثرَ من مِائةِ سَنَةٍ علَى بدايةِ حَرَكَته- بله أن تكون أقدم من ذلك بكثير- بَقيَ الْوَاقِعُ على ما كان عليه؛ بل ازداد سُوءاً مَعَ اِزْدِيَادِ تردّي مَجَرِّيَاتِ التعليمين الأوليّ وَالْعَالِي في معظم البلدان المعنيّة بالعربيّة، وكذا مخرجاتهما.
وفِي ظَنِّي أَنَّ مَسْأَلَةَ صعوبةِ النَّحوِ أو يُسْرِهِ ليست هي المشكلةَ الحقيقيّةَ؛ إنّما تكمن المشكلةُ في مغادرتنا لتلك اللغة التي يُدرّس نحوها، وعدم الإيمان بقدرتها على الحياة الفاعلة والمؤثرة في ابنائها وفي العالم. وعدم الالتفات إلى وضع خطط لغويّة وسياسات راعية للارتقاء باللغة تدريسا وممارسة؛ لذا أعتقد أنّ أوّل لبنة في إحياء هذه اللغة تكمن في إحساس المتلقي أنّه غيرُ بعيدٍ عن اللغة التي هو بصددها، ويمكن تنمية هذا الإحساسِ بأنْ يُستدعَى ذلك المتلقي الى عالم تلك اللغة فيدخله كما دخله العلماء السّابقون المستنبطون مقتفيا آثارهم؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾{النساء26}.
تتمثّل خطوتنا هنا بمحاولة مغايرة المنهج التعليميّ السائد الّذي يُسلك في ايصال المادة النّحوية الى الطلبة مسلك إلقاء القاعدة النحويّة إلى أن نقارب منهجاً تعليميّاً مختلفاً هو أقرب إلى اعتماد الملكة اللغويّة عند متلقي هذه اللغة بوصفهم عربا؛ وإن غلبتْ اللهجات العاميّة عل طبائعهم واختلطت ملكتهم اللغوية، إلا أنّ جانبا مهمّا تحتفظ به ملكاتهم من النظام اللغويّ يتمثّل في إدراكهم معاني الأداء الفصيح للغة بلا عناء كبير، يمكن أن يُستثْمر هذا الإدراك في استكشافهم النّحو ومعانيه وما يتعلّق به من مستويات ضرورية لفهمه.
فهَذَا الْاِقْتِراحُ يعتمد عَلَى تَنْمِيَةِ حِسِّ الطَّالِبِ بكَيْفِيَّةِ فَهْمِهُ لِطَبِيعَةِ الْكَلاَمِ وادراكه إياه وَكَيْفِيَّةِ الكشف عن قَوَاعِدِه المؤيدة لفَهْمِ تَرَابُطِ وحداته ابتداءً بوَحْدَاتِه الصُّغْرَى: وهي الألفاظُ الْمُفْرَدَةُ وتشكيلها (الصَّرْفِيَّ) ثم انتظام هذه المفردات وُصُولَا إلَى وِحْدَتِهِ التركيبيّة والتعبيريّة الْأساسيّة وهي الْجُمْلَةُ. ثم عروجاً منها إلى مستوى الكلام (أو النصّ). وَيُمْكِنُ أَنْ نَطْلَقَ عَلَى هَذَا الْمَنْحَى في تَعْلِيمِ النَّحْوِ الطَّرِيقَةَ الْاِسْتِدْلاَلِيَّةَ أَوِ الْاِسْتِنْبَاطِيَّةَ لأنّ القواعد يتمّ استنباطها من الطلبة، وكذا سائر الأحكامِ الملحقة بها، معتمدين على ذائقتهم في فهم الكلام ومعانيه، ثمّ يجري تصحيح هذه القواعد في مرحلة تالية، تصحيحاً يُرعى فيه الارتكاز إلى الذوق اللغويّ لا إلى الحكم القاعديّ.
فأن تُعتمَد طريقة الكشف عن مكونات تلك اللغة عبر نصوصها الفصيحة ليعلّل كلّ ما يتمّ رصده منها، ولتكن جهات التّعليل ممّا يختاره المتلقّي؛ وينسجم مع مسارات عامّة للتفكير العلميّ اللغويّ، مستثمرا مفاهيم استعاريّة من بقية العلوم لمقاربة الصّورة وتجليها عند الطّلبة مع سمة الاطراد في قواعد أو استنتاجات الباب الواحد، إذ الإطراد شرط العلم وشرط الضبط.
وهو مسلك أشبه ما يكون بطريقة علماء اللغة والنحو فِي الْعَصورِ التي شهدت ولادة قواعد العربية، أعني بها حقبة كتاب سيبويه وما قبله؛ الأمر الذي سَيُسْهِمُ فِي مُحَاوِرِ مُفِيدَةٍ أبرزها:
⦁ تَنْمِيَةِ الْقِدْرَةِ الْكَامِنَةِ فِي عَمَلِيَّةٍ التحليل والاستنباط وَالتَّوْجِيه.
⦁ تَنْمِيَةِ الْقِدْرَةِ اللَّغْوِيَّةِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيهَا لإدراك الْكَلاَم الْفَصِيح، وَمُعَرَّفَةِ الاخطاء فِي الْجُمَلِ وَاِقْتِراحِ مُعَالِجَاتِهَا.
⦁ جَعَلِ النَّحْوِ وَفِكْرَة تَرَابُطِ مُكَوِّنَاتِ الكلام الأساس وانسجامها في تأليف العبارات، مدخلا لهذه التنميّة الاستنباطية أو الاستكشافيّة.
⦁ الْعِوَدَةِ الى اِسْتِثْمَارِ طَرِيقَةِ سيبويه (وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا فِي النَّحْوِ مَعَ استاذه الْخَلِيلِ بُن أَحَمْد الفراهيدي) الَّتِي عَوَّلَ عَلَيهَا فِي انجاز كِتَابه وتقييد مَسَائِله.
⦁ تَنْمِيَةِ روحِ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وَالْاِعْتِمادِ عَلَيهَا فِي فَهُمْ بَعْضِ مُنْجِزَاتِهَا وهو الكلام.
إنّ هذا الاقتراح يستمد طرحه من طريقة سيبويه التي عوّل عليها في إنشاء نحوه وفهم مسائله، ونسج أبواب كتابه وتدوين مادته، إذ كانت المشكلة عند سيبويه هي كيفية فهم كلام العرب، والآليات التي نسج على وفقها، والعلاقات التي تجعلُ من وحداتِه الكبرى (الجمل الصغرى والكبيرة الممتدة) تدرك بوصفها الكلّيّ أيْ: كونُها كُلًّا واحِداً، وبناءً متَّصِلًا؛ اللفظة باللفظة. ولذا نرى أن سيبويه قدّم في سبيل ذلك طائفة من النظريات اللغوية النحويّة التّي صدّرها في مفتتح كتابه (وهي الأبواب القصيرة المجملة التّي جعلها مقدمة كتابه، التي قد توهم كثيرون أنّ كتاب سيبويه خلا منها، علما أنّ بعض القدماء قد أدرك خصوصيّة هذه الأبواب القصيرة التي تصدرت الكتاب فأُطلق عليها رسالة كتاب سيبويه) (منهم الزجاجي، ينظر: مقدمة محقق الايضاح في علل النحو: ص7). ومن المهم أن يتمّ إلقاءها أو استكشافها من الطلبة أنفسهم ليعرفوا جهات ينبغي أن يسلكها المتعلم في فهمه الكلام.
وأبواب مقدمة سيبويه الموجزة هي ما يأتي:
.1 ((هذا باب علم ما الكلم من العربية)) ماز سيبويه فيه أصناف الكلم على ثلاثة الاسم والفعل أما (الثالث الحرف) ويزاد عليه تقسيمات فرعية إلى الصفات والظروف وأنواع الأفعال وأنواع حروف المعاني، وغيرها.
.2 ((هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية)) وهو باب العامل وآلية الاعراب المتعلقة بالأسماء وبالأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين، وتظهر ههنا فكرة البناء المقابلة للإعراب، والعلامات الاعرابية الاساسيّة والنائبة. ومنها يظهر حمل الاسم على التّمام في الخضوع لقوانين العربيّة فيكسع بالتنوين أو لا يخضع فيحرم منه. وما يقترن بعلامات الإعراب من دلالات نحوية وزمنيّة في الأسماء والأفعال.
.3 ((هذا باب المسند والمسند إليه)) وهما المكونان الأساسيان لبناء أي جملة في العربية؛ وعبرهما يمكن إظهار آليات الربط والاستدعاء التي يمارسها المسند على المسند إليه، وعلى غيره من المكونات التالية له(المفاعيل) قوة التعدي التي يتسمّ بها الفعل وظهور التوابع بعد الأسماء.
.4 ((هذا باب اللفظ للمعاني)) وفيه بيان العلاقات الدلاليّة بين المفردات اللغوية. واستكشاف مديات التفاعل بين الألفاظ في الترابط الجملي والاقترانات اللفظية بتفاعله مع مجريات باب الاستقامة من الكلام والإحالة.
.5 ((هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض)) وفيه تقرير واضح لنظريّة الاصول اللغوية، وما يطرأ على تلك الأصول من تغييرات ينظر إليها بوصفها أعراض للنظام الأساسي لانتظام الجمل؛ والأعراض هي: التقديم والتأخير والحذف والزيادة والبناء للمفعول.
.6 ((هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة)) وفيه بيان هيمنة المحتوى الدلالي للفعل بسماته المعجميّة على تكوين الجملة فيحكم على الجملة بالصحة النحويّة أو الدلاليّة أو بالخطأ فيهما. وذلك هو قانون الصحة النحويّة الذي لا يسمح بإخراج جمل خطأ.
.7 ((هذا الباب ما يحتمل الشعر)) وهو باب يظهر مواطن التساهل اللغويّ بقبول بعض مظاهر التجاوز على النظام اللغويّ على نحو الضرورة، في أنماط من الأداء الخاصّة وهو الأشعار.
الأمر المهم هنا أنّ نفهم هذه الأبواب بوصفها نظريات أو مسارات ينبغي الانطلاق منها لتقديم رؤى الطالب التحليليّة أو الاستنباطية وإشعار الطلبة بأهميتها في سبيل فهم أعمق لما يقع لهم من الكلام. مع التّنويه إلى أننّا نطرح هذه الأبواب بمفاهيم وتفصيلات لعلها أكثر سعة ممّا أوردها صاحبها. وأقول (لعل) لأنّه لا نستبعد على عقليّة مثل سيبويه وقبله أستاذه الخليل أن تشتمل هذه الأبواب على ما هو أكثر سعة من مجالاتها المتبادرة.
وقد عمدتُ منذ سنوات خلتْ، ولعلها منذ أوّلِ تدريسيّ في المستوى الجامعة، إلى تطبيق بعض ملامح هذا المنهج الاستدلاليّ أو الاستنباطيّ بدرجات متفاوتة فاُشرك الطالب في أن يقول ما يفهمه من موارد موضوع درسه.
وههنا سأورد مثالين تطبيقيين لكيفية استكشاف الطلبة لبعض الأحكام النحوية ومتعلقات ذلك الحكم، وقد اعتمدنا السياق اللفظيّ والقرائن الحافّة:
المثال الأول: الكشف عن مهما دلالة وعملا، في قوله تعالى:
﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾{الأعراف/132}.
فنقوم مع الطلبة بالسؤال عن جملة أمور منها ما المعنى العام للآية؟ وما ترتيب جمل الآية؟ وما نوع الجمل المستعملة؟ … وهكذا فترتّبت الإجابات على النحو الآتي:
⦁ الآية تدلّ على استحالة وقوع الإيمان من هؤلاء، أو شدّة إعراضهم.
⦁ جاءت (مهما) في صدارة جملتها، وهي متقدّمة على الفعل المضارع.
⦁ الفعل المضارع (تَأْتِنَا) مجزوم؛ إذن مهما تعمل الجزم.
⦁ الجملة (فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) مترتبة على الجملة التي تقدمتها وهي بمنزلة النتيجة للأولى؛ إذن مهما من أدوات الشرط. ويصحّ في جوابها وقوع الجملة الاسمية إلا أنها مسبوقة بالفاء (الدّالة على التعقيب أو الترتيب).
⦁ ثمّ نقترح أنّ ّمعنى مهما هو استبعاد حصول الجواب، وكأنها مؤكّدة للنّفي والإعراض.
⦁ يعضد هذه الدلالة (من آية) و(بمؤمنين) بالتوكيد عبر الاستغراق في مِن، والتوكيد بالباء الزائدة. مع تقدّم الجار والمجرور في لك.
⦁ يمكن القول بانتماء مهما إلى الحروف لإفادتها معنى حرفيّا هو النفي؛ كالنفي بـ (ما) وإن كان أشدّ وأوكد، ومن هنا فقد قال النحويون فيها: إنها في الأصل (ما ما) ثم دمجتا.
المثال الثاني: وجّهتُ سؤالا الى الطّلبة في اعراب (أهل البيت) في الآيتين، وقد قال المفسِّرون والمعربون بجواز النداء والاختصاص في الموضعين، فهل الموضعان متساويان في ذلك، ولا يُرجح توجيه على آخر؟
⦁ قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ {الأحزاب/33}.
⦁ قال تعالى:﴿قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ {هود/73}.
فبعد الالتفات إلى سياق الآيتين من وجود ضميرين متعادلين (نون النسوة وكم للمخاطبين) بينما في الآية الأخرى وجود ضميرين غير متعادلين (ياء المخاطبة وكم ضمير المخاطبين). خرجنا إلى تحليل الموضعين على النّحو الآتي:
الشطر الثّاني في آية الأحزاب انتحى نحو استعمال ضمير المخاطبين (كم) ثم ذكر أصحاب هذا الضمير بمعنى أنّ ( أهل البيت) كان مبيّنا للضمير قبله، وهذا الأمر يجعله في خانة الاختصاص وبهذا فهي لا تختلف عن الوضع في الآية من هود، لكن آية الأحزاب تمتاز بأنّ الشطر الأول من الآية ظهر فيها ضمير مخاطب (نون النّسوة) وهو متصل بسياق كامل من الآيات السابقة، المتعلقة بالاسم الصريح للمخاطب وهو ( نساء النبيّ)؛ فكانت النتيجة أنّ آية الأحزاب أحدث فيها استعمال الضمير المغاير لنون النّسوة وهو ضمير المخاطبين (كم) لبساً؛ لذا فالوظيفة التي سيسلكها تركيب(أهل البيت) هي وظيفة الإبانة وإزالة الغموض والإيضاح فالترجيح، بل الواجب إعرابه على الاختصاص لإبراز المعنيّ بالضمير. وهو أمر لا يقوم به النّداء، لأنّ النداء: طلب الإقبال حقيقة أو مجازاً وقد يخرج إلى المدح والثناء أو غيرهما.
أما في الآية من سورة هود المباركة فليس فيها ما في الآية المتقدمة، إذ نجد أن الكلام كان بين الملائكة وزوج إبراهيم خليل الله (عليه السّلام) بمحضر منه. وقد تعجّبتْ من البشارة الّتي حملتها إليها الملائكة بالحمل فنبّهتها الملائكة إلى عظيم بركات الله. فلم يكن هناك ابهام ليُطلب ايضاحه فالضمير السابق هو للمخاطبة كما في (أَتَعْجَبِينَ..) ثم قيل لها من أهل البيت، والكلام تمّ بحضور إبراهيم (عليه السلام) المذكور في الآيات السّابقة، مع وضوح جهة الكلام في بيان تفضيل الله تعالى لهم.
لقد كانت إجابات الطلبة تنحو إلى الموافقة مع بيان القرائن في الوصول إلى ترجيح هذا الإعراب على غيره، وكلّ بحسب موضعه وقرائنه.