أثر الإمام جعفر الصّادق عليه السلام في المنهج النحويّ عند الخليل وسيبويه

أ.د. حسن عبد الغني الأسدي
جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الإنسانية

لا يخفى أنّ الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام(ت148هـ) أرسى دعائم مهمة في كثير من العلوم وقد خطّ لها خطوطاً تأسيسيّة أو تفصيليّة أسهمت في تطوّر تلك العلوم ودخولها في حقبة الرصانة المبنيّة على رؤية واعية ومتخصصّة؛ ولم تقتصر توجهات الإمام على جانبي القرآن أو السنة بل تعدّى ذلك إلى جوانب علميّة أخرى في علوم الكلام والعقائد، والفلسفة والعرفان وعلوم الفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة، وقد تولّى الإمام بنفسه الولوج في هذه العلوم. والكلام واسع عن إنجازات الإمام في مجال تدريس العلوم أو التأسيس لها، أو إيكال بعض أصحابه بذلك.
وفي هذه المقالة رصدنا موضعاً رياديّاً للإمام الصّادق (عليه السلام) لم يَلتفتْ إليه الدارسون من قبل، وهو وضع أصول مهمة للتفكير العلميّ وكيفية رصد وفهم الظواهر، وقد بدا لنا أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت175هـ) أفاد من ذلك في بناء منهج نحوي مختلف عن أقرانه وهو ما ظهر مفصلاً في كتاب سيبويه فكان منهج الكتاب تعليليّ افتراضيّ. وعلى الرغم من الصحبة التي ذكرها بعض المترجمين للخليل بالإمام الصادق عليه السلام وتشيعه إلّا أنّنا ههنا لم نعوّل على هذا الأمر، فموضوع المقالة خاصّ، ويحتاج إلى دليل موَثّق للقول بالتأثير الصريح.
لقد أملى الإمام الصادق(عليه السلام) كتاباً على بعض أصحابه عُرِف بكتاب فكّر وعُرِف أيضا بتوحيد المفضل نسبة إلى المفضّل بن عمر الجعفيّ الكوفيّ (المتوفّى في أوائل القرن الثالث) وهو من أصحاب الإمام المشهورين، فأملى عليه الإمام كلاماً، ليرفع به عن نفسه اللأواء والحزن بعد مجادلته بعض الملحدين.
ابتدأ الإمام في صدارة هذا الإملاء بأن ذكر رصانة العلم الذي سيلقيه عليه شاكرا الله على ما خصّهم به من العلم، فقال بعد تعظيم الله جلّ وعلا: “فله الحمد على ما ألهمنا والشكر على ما منحنا فقد خصّنا من العلوم بأعلاها ومن المعالي بأسناها واصطفانا على جميع الخلق بعلمه وجعلنا مهيمنين عليهم بحكمه”(كتاب فكّر:69-70).
ثمّ قال: “يا مفضّل: إنّ الشّكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة وقصرت أفهامهم عن تأمل الصّواب والحكمة فيما ذرأ الباري جلّ قدسه، وبَرأ من صنوف خلقه في البر والبحر، والسّهل والوعر، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود وبضعف بصائرهم إلى التّكذيب والعنود”(كتاب فكّر:70). فنحا بهم ذلك الى إنكار حكمة الخالق وانكاره، ثم قال الإمام:” فهم في ضلالهم وغيّهم وتجبّرهم بمنزلةِ عميانٍ دخلوا داراً قد بُنيَتْ أتقنَ بناءٍ وأحسنِه وفُرِشت بأحسنِ الفَرشِ وأفخرِه وأعدّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التّي يحتاج إليها، ولا يستغنى عنها، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التّقدير وحكمة من التّدبير، فجعلوا يتردّدون فيها يمينا وشمالا، ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا محجوبة أبصارهم عنها، لا يُبصِرونَ بِنْيَةَ الدَّارِ وما أُعِدَّ فيها، ورُبَّما عثر بعضُهم بالشيء الّذي قد وُضِع موضعَه، وأُعدّ للحاجة إليه، وهو جاهلٌ للمعنى فيه، ولِمَا أُعِدَّ، ولماذا جُعِل كذلك؛ فتذمّر وتسخّط وذمّ الدّار وبانيها، فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة، وثبات الصنعة. فإنّهم لما عزبت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى فلا يَفهمون ما هُو عليه من إتْقان خلقتِه وحسنِ صنعتِه وصوابِ هيئتِه، وربّما وقف بعضُهم على الشيء يجهل سببه والإرب فيه فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطإ”(كتاب فكّر:70-71).
فالإمام ههنا يقدّم رؤية واضحة ترتكز على فكرة النّظام أو النّسق فالكون الهائل الاتّساع بمنزلة الدّار المنتظم الأركان، وهو تشبيه يراد به إظهار تناسق أجزاء الكون وانتظامه وقيام كل جزء بوظيفته التي تنتمي إلى البناء الكليّ ولا تنبو عنه؛ فالإمام أراد أن يتمّ احتواء الكون على سعته عبر استعارة افتراضية لمفهوم الدار المتقنة البناء، حتى يتسنى لنا فهم انتظام هذا الكون واتساقه، ثم توظيف قوانين العلّة والتّجريد وبديهيات المعرفة الإنسانيّة، وما عيبهم هذا الكون إلا الجهل؛ ففي استعارة الدار يُلمَح مستويان من النّظر:
المستوى الأول: الرؤية الكليّة والطابع الافتراضيّ المقترن بها( بقوله: بنية الدار).
المستوى الثانيّ: النّسق التراتبي لأجزاء مكونات الدار، النّاظر الى كيفيّة وفوائد ترابط الأشياء وكيفية امتداد أجزائها وترابطها الخطّيّ أفقيّا أو عموديّاً.
فكانت دعوة الإمام عليه السلام واضحة للمفضّل، أنّ التّعامل مع أي وجود منتظم ينبغي أن يقترن بالتّدبّر والتّأمل في أحواله والولوج إلى أجزائه للوقوف على أسباب ذلك الانتظام.
من هنا نأتي إلى الرؤية النّحويّة التي أقامها الخليل للنّظر في كلام العرب وفهمه إيّاه فقد عمد إلى استثمار هذه النّظرة المنهجيّة ليقيم نظرةً جديدةً للنّحو لم تكن معهودة قبله، وقد زوّدنا الخليل بنصّ هو وثيقة الصلة مع مقولة الإمام الصادق عليه السلام الآنفة الذكر … فقد لاحظ بعض معاصري الخليل اختلافه عن غيره وتباينه عنهم في فهمه لكلام العرب، فقد قال الزجاجيّ: ” ذكر بعض شيوخنا أنّ الخليل بن أحمد- رحمه الله- سُئل عن العلل التي يعتَّل بها في النّحو، فقيل له: عن العرب أخذتَها أم اخترعتَها من نفسك؟ فقال: إنّ العرب نطقت على سجيّتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم يُنقل ذلك عنها، واعتللتُ أنا بما عندي أنّه علّة لما علَّلته منه، فإن أصبتُ العلَّة فهو الذي التمستُ، وإن تكن هناك علَّة له، فمَثَلي في ذلك مَثَل رجلٍ حكيم دخل داراً محكمة البناء؛ عجيبة النظم والأقسام؛ وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدّار على شيء منها، قال: إنما فعل هذا هكذا لعلّة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا. سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك. فجائز أن يكون الحكيم الباني للدّار فعل ذلك للعلّة التي ذكرها هذا الّذي دخل الدار، وجائز أنْ يكون فعله لغير تلك العلّة؛ إلا أنّ ذلك ممّا ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علّة لذلك، فإنّه سنح لغيري علّة لما عللته من النّحو هو أليق ممّا ذكرته بالمعلول فليأتِ بها”(الايضاح في علل النحو:65-66).
فلقد ظهر في كلام الخليل ذلك الرجل الحكيم الذي نوّه إليه الإمام بذكره الصورة السلبيّة التي نهى عنها وعابها وظهرتْ الدّار المحكمة البناء بلفظها التّي عبّر عنها الإمام بـ( بُنيَتْ أتقنَ بناءٍ). ولقد تمكّن الخليل بمثل تصوّره هذا، وفي ظلّ فكره الوقّاد أن يقيم درساً لسانيّا مميَّزاً في فهم كيفيّة تكوين الكلام بأنساقه المتعدِّدة ووظائف مفرداته، وما يعتريها من تغاير عن أصولها، بل في كيفيّة القول بوجود تلك الأصول، وتقليب وجوه الكلام ومعرفة جهات صحة الكلام وخطئه وجهات الإحالة في الكلام والقبح والاستقامة بنظرة تعليليّة افتراضيّة تجلّت في كتاب سيبويه بوصفه مستودع علم الخليل بأروع صورها.
فإذا اتّسق كلام العرب عند الخليل بوصفه دارا منتظمة، إشارة إلى المستوى الكليّ من النظر في كلام العرب بوصفه نظاما متّسقا غير عشوائيّ، فإنّ في أبواب تلك الدّار ولبنات جدرانها ما يظهر فكرة الانتظام والاتّساق بين الأجزاء. وهو ما تكفّل سيبويه ببيانه مفصَّلا غاية في التّفصيل وهو ينقل من علم أستاذه الخليل وفكره الجديد.
وأول ما نلمح من ذلك ألفاظ:( العللُ والأسبابُ والمعاني، الإحالة والخطإ، والبنية، وهي الألفاظ التي ظهرت في كلام الإمام الآنف الذكر)، وما زال سيبويه بعد أستاذه مفسٍّرا ومفصِّلاً لبواطن بناء تلك الدار والحكمة فيها. فمن يبني الجملة يُسمى(العامل) وهي اللفظة القديمة التي ما تزال مستعملة بدلالتها المعجمية أي البنّاء. فأضحى هو العامل النحوي وهي المكانة المهمة التي تتخذها اللبنة الأولى في بناء الكلام، فهي أساس البناء وبهذا فهي من سيسمح ببنائه.
فالكلمة الأولى هي المسند (المرتفع على الأرض) يرتفع عليه المسند إليه (أي المرتفع عليه).
المعمول (المبني) المسند إليه المبني عليه ( الخبر ) المبني عليه (الفاعل) رفع
العامل (البنّاء) المسند المبتدأ الفعل رفع

كما ترتفع اللبنة على اللبنة في البناء عند العراقيين منذ القديم. فالرّفع والنّصب والجر أو الخفض كلّها في الأصل ألفاظ بناء، تكاثرت في الكتاب على مستوى الجملة وبناء المفردات.
ويبدو لي أنّ هذا التوظيف الاستعاريّ لفكرة الدار المتقنة البناء لتكون دالّة على كلام العرب كلّا، وما تبعها من البحث عن أسباب الانتظام وعلله ومعانيه أسهمت في الصّورة الرائعة التي صنعها الخليل وسيبويه للنحو العربيّ. وقد كانت محاولة سيبويه موفقة لبناء نسق من العلاقات النّحويّة، والدّلاليّة قائم على الاطراد والعلاقات بين مكونات الجمل؛ ووضع الأصل(الافتراضيّ) للجملة العربية وتفسير علاقات الربط بين الوظائف النحويّة، في تحوّلاتها المتنوعة عن ذلك الأصل. وهي تمثّل خطوة غاية في الأهمية، أهلّت أن يكون التّحليل النّحويّ المعتمد في الكتاب مختلفاً في آلياته ووسائله عمّا ألفه معاصرو الخليل وسيبويه. وأمثلة ذلك في الكتاب كثيرة، وهي تعضّد أسباب ذلك السؤال الذي سئل إياه الخليل؛ فقد سلك سيبويه مسلك أستاذه وخلط نفسه بنفسه.
ونذكر من ذلك قول سيبويه: “وإنّما ذكر الخليل -رحمه الله -هذا لتعرف ما يُحال منه وما يحسن؛ فإنّ النحويين مما يتهاونون بالخُلْف إذا عرفوا الإعراب. وذلك أنّ رجلاً من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يُخبرك عن نفسه أو عن غيره بأمرٍ فقال: انا عبد الله منطلقاً، وهو زيدٌ منطلقاً، كان محالاً؛ لأنّه إنّما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو، ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التّسمية؛ لأنّ هو وأنا علامتان للمضمر، وإنّما يُضمِر إذا عَلِم أنّك قد عرفت من يعني. إلاّ أنّ رجلاً لو كان خلفَ حائط، أو في موضعٍ تجهله فيه فقلت: من أنت؟ فقال: أنا عبدُالله منطلقاً في حاجتك كان حسناً”(كتاب سيبويه:2/80-81) فقوله مما يتهاونون بالخُلْف الذي دلّ على السياق المفترض الذي يُستقى من كلام بعينه يكتنزه المحتوى الدلاليّ للجملة لرسم مسرح لغويّ افتراضيّ، لعملية كلاميّة لا انتاج جملة يتيمة لا صلات لها. وهو سياق يتمّ تصحيح جمل تُعدّ خطأ لولا هذه النظرة.
ومن ذلك قول سيبويه: “فإن قال: أقول مررتُ بقائماً رجلٍ؛ فهذا أخبث من قِبَل أنّه لا يفصل بين الجار والمجرور. ومن ثمَّ أُسقط: ربّ قائماً رجلٍ. فهذا كلام قبيح وضعيف. فاعرف قبحه، فإنَّ إعرابه يسير. ولو استحسناه لقلنا هو بمنزلة: فيها قائماً رجلٌ؛ ولكن معرفة قبحه أمثلُ من إعرابه”(كتاب سيبويه:2/124). فهمُّ الإعراب لا يتصدّر همومَ سيبويه، كما يفعل غيرُه من المعربين المعاصرين له باكتفائهم بمعرفة الإعراب، من دون أن يكون لهم باع في تأمّل الكلام لمعرفة علل الاستقامة والإحالة في الكلام ولا أن يأخذوا بأسبابهما أو بمقام الكلام.
وانسجاما مع هذا التوجّه الجديد عند هذين العلمين وفي ظل التوجه التعليليّ الذي خطّه الصادق نرى أن لفظة (التفسير) ومتعلقاتها كان لها حضور لافت في الكتاب. و”التفسير وهو بيان وتفصيل للكتاب” على ما ذكر الخليل في العين، جاءت في (150) موضعا من الكتاب تصبّ في سياق مهمة النحويّ ووظيفته حتى رأينا أن نعزز صفة نحو الخليل وسيبويه بأنه نحوٌّ تفسيريٌّ. وأبرز ما نذكره هنا أنّه بعد أن ذكر طائفة من التركيبات التي اختزل الفعل منها قال: “واعلم أنّه ليس كلّ حرف يظهر بعده الفعل يحذف فيه الفعل، ولكنّك تُضمِر بعدما أضمرتْ فيه العرب من الحروف والمواضع، وتظهر ما أظهروا. وتجرى هذه الأشياء التّي هي على ما يستخفّون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام وممّا هو في الكلام على ما أجروا (إلى أن يقول) فقفْ على هذه الأشياء حيثُ وقفوا ثمَّ فَسِّرْ” (كتاب سيبويه:1/265-266). فقوله مخاطباً متلقيه فقفْ حيث وقفوا ثم فسِّر، يعطينا صفة النّحو الذيّ يريده سيبويه.
ومنها “وإنّما حملَنا على تفسير لبَّيْك وسَعْديك لنوضِّح به وجه نصبهما لأنّهما ليسا بمنزلة سَقياً وحمداً وما أشبه هذا. ألا ترى أنك تقول للسائل عن تفسير سقياً وحمداً: إنّما هو سقاك الله سَقياً وأحمدُ الله حَمْداً..” (كتاب سيبويه: 1/353). فالتفسير بيان وجه الكلام وبيان التركيب الأساسيّ المفترض لهذه التراكيب الظاهرة ولنظائرها..
ونجد عند سيبويه جانبا آخر مهما يعزز الجهة الافتراضية التي استثمرها الخليل في درسه النحويّ من مقولة الإمام الصادق فاشتغل عليها سيبويه في فهم التراكيب، وذلك قوله:(تمثيل ولم يُتكلَّم به) ونظائره وجاء في خمسين موردا، نذكر منه قوله في باب التعجب: “هذا باب ما يعمل عمل الفعل ولم يجر مجرى الفعل ولم يتمكّن تمكُّنَه وذلك قولك: ما أحسنَ عبدَاللهِ. زعم الخليل أنّه بمنزلة قولك: شيءٌ أحسنَ عبدَالله، ودخله معنى التعجب. وهذا تمثيل ولم يُتكلّم به” (كتاب سيبويه:1/72). فقد نظر الخليل الى هذه الجملة بمنزلتين الأولى البنية النحويّة الأصل (المبتدأ والمبني عليه) والثانية منزلة دلاليّة لتدلّ على التّعجب (للمزيد عن منهج سيبويه ينظر: مفهوم الجملة عند سيبويه).
وعموما فإنّ النحويّين لم يكونوا بمعزل عن تأثيرات الفقهاء وأهل الكلام والفلسفة والمفسّرين والمحدّثين والمؤرّخين في عصرهما، ولا نظير لمن تأثرّ الخليل وسيبويه به في هذا الجانب، فالإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يَشهد له المعاصرون بعد القدماء بقدم راسخ في علوم شتى، وتأسيس لبعضها.