م.د عبد الخالق عبد الحسين سلمان الحسناوي – كلية القانون
حظيت الأرض التي يدفن فيها الموتى باهتمام أغلب المجتمعات في الماضي وصولاً إلى العصر الحديث، إذ أهتمت أغلب الدول بهذا الموضوع، ومنها العراق، وتحديداً منذ العهد الملكي، فقد صدر نظام المقابر رقم (18) لسنة 1935 المعدل، والذي لايزال سارياً حتى الأن، ونصَّ في المادة (2) منه على تشكيل لجنة في كل محل يعلن فيه تطبيقه تسمى (لجنة المقابر)، ويرأس هذه اللجنة في بغداد أمين العاصمة، أما في الألوية أي – المحافظات في الوقت الحاضر- فتشكل برئاسة مدير البلدية أو رئيسها بحسب نص النظام.
كان من أهم وظائف هذه اللجنة التي جاء بها نظام المقابر ما نصت عليه المادة (4)، وتحديداً في الفقرة (أ) منها, وهي تسوير المقبرة، أي أن تحاط المقبرة بسياج أو سور يمنع الدخول إليها من غير الممر أو الطريق الرسمي , ولمديرية الأوقاف العامة تأسيس مقابر خاصة تكون هي وحدها المسؤولة عن تنظيمها وإدارتها , وهذا الاختصاص منح أيضاً للطوائف الدينية غير المسلمة , ومن ضمن ما ورد بهذا النظام والمتعلق بموضوعنا , هو النص على حماية المقبرة بعد أن نصت الفقرة (ج) من المادة (10) من النظام على أن تكون هناك غرفة ضمن المقبرة تستخدم لإقامة الحراس , ومعنى ذلك أن هذه المقبرة تُعد مكاناً مشمولاً بالحماية الأمنية تحسباً ومنعاً لأي ظاهرة أو سلوك أو فعل يمس هذه الأماكن , ومن ضمن ذلك ارتكاب الجرائم فيها أو محاولة ذلك. ومصداق هذا القول نجده في المادة (19) من النظام , التي منعت المكث , والسكن , والمنام داخل حدود المقابر بعد غروب الشمس إلى ما قبل شروقها بساعة واحدة إلا للحرس الرسميين وموظفي المقابر إن وجدوا لخدمتها . أما المخالف لنظام المقابر المشار إليه أو التعليمات التي تصدر بموجبه , فيعاقب بموجب قانون العقوبات , والمسمى عند تشريعه بقانون العقوبات البغدادي , وتحديداً في المادة (126) من هذا القانون .
أما قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل , فقد عاقب على انتهاك أو تدنيس حرمة المقابر بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين. ومعنى ذلك أن هذا القانون قد أعترف أن للمقابر حرمة وقدسية لدى المجتمع , لكن ما يؤسف له أن نجد الكثير من المقابر تعاني الإهمال، خصوصاً ما يتعلق بتسييجها , فالبعض منها لا يوجد لها سياج أو سور, والبعض الأخر منها يعاني الاندثار والقدم ولم يتم ترميمه أو إعادة بنائه، أو أن ارتفاعه لم يكن بالمستوى الذي يمنع دخول هذه الأماكن من غير ممرات الدخول الرسمية , الأمر الذي يُسهل بذلك اجتياز هذه الأسيجة أو أحداث ثغرات أو فتح ممرات للدخول من خلالها إلى داخل المقبرة،وهذه الأفعال يمكن أن تشكل أيضاً تهديداً حقيقياً لأمن الأفراد وحمايتهم .
فضلاً عن ذلك فإن نظام المقابر لم يحدد ارتفاع بناء القبر, وهذا ما دفع الكثير من أسر المتوفين لبناء القبور بارتفاع يحجب الرؤيا، مما ييسر ارتكاب الجرائم والتخفي بين قبورها. والهفوة الأخرى أن هذا النظام لم يبين موقفه من المقابر التي تنشئ تحت الأرض أو ما يسمى ب(السرداب) , وهي عبارة عن غرف تحت سطح الأرض تخصص لدفن جثث الموتى بعد أن تبنى على شكل طوابق وتحتوي على ممرات للدخول والمكوث فيها وممارسة الطقوس العبادية , وهذا أمر يحتاج إلى تسليط الضوء عليه بخصوص ارتكاب الجرائم , إذ نجد أن القبور التي تحت الأرض أي السراديب مفتوحة للجميع غالباً , ولا توجد عند مداخلها أبواب مقفلة تمنع دخول الغرباء، أو من يروم ارتكاب أفعال لا يجيزها القانون مما يسهل ارتكاب الجرائم , واخفاء أثارها المادية كجثة المجنى عليه أو أدوات وآلات ارتكاب الجريمة.
ومما يؤسف له أن هناك تراخياً حكومياً واضحاً وعدم مبالاة بمتابعة شؤون المقابر، نظراً لما تشكله من تهديد أمني حقيقي في ارتكاب مختلف أنواع الجرائم من سرقة وقتل وجرائم غير أخلاقية وغيرها , وهناك ألاف الشواهد على ذلك مع الأسف , الأمر الذي يدعو إلى النظر لهذا الموضوع بقدر من الاهتمام , من قبل جميع سلطات الدولة سواء مجلس النواب الذي يمثل السلطة التشريعية عن طريق تشريع قانون يُضمن مواده على أقل تقدير ما أشرنا إليه من ملاحظات , ويشدد العقوبات الجزائية بحق من يرتكب الجرائم في المقابر , ويعتبرها ظرفاً مشدداً . وكذلك الحال بالنسبة للسلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة , وتحديداً وزارة الداخلية، التي تمتلك زمام المبادرة في حفظ الأمن العام , ومنع ارتكاب الجرائم في المقابر ؛ كونها أصبحت بيئة إجرامية أمنة , وملاذاً لبعض من لديه روح إجرامية في تحقيق مبتغاه الإجرامي , وذلك بالتعاون مع قيادة العمليات وقيادات الشرطة في المحافظات، بوضع خطط أمنية استباقية، وتوفير عناصر أمنية كافية لحفظ الأمن ومنع الجرائم في هذه الأماكن, ونصب نقاط تفتيش دائمة عند مداخل المقابر, وتعزيزها بنقاط دائمة في داخلها أيضاً ؛ لأن هناك مقابر كبيرة وواسعة تمتد لعدة كيلومترات , وتحتوي على طرق يسهل من خلالها هروب الجناة , والتنسيق مع مديريات البلديات والكهرباء والجهات الخدمية الأخرى لبناء الأسيجة وتوفير الإنارة , فضلاً عن نصب كاميرات مراقبة رقمية تغطي كل مساحة المقبرة، لمنع هذا الخرق المستمر للأمن، وجعل هذه البيئة الآمنة للإجرام مصيدة للجناة ، تمنع افلاتهم من قبضة العدالة.