قرآنيات: الفِكر والمعجزة

أ.د. نجاح فاهم العبيدي
كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية

امتاز الانسان عن غيره من المخلوقات بنعمة العقل، واعني بالعقل هنا هو العمليات الذهنية والنشاط المعرفي الذي ميز الانسان بالناطقية التي خصها المناطقة بالإنسان الذي عرفوه بأنه حيوان ناطق. وليس الناطقية هنا سوى النشاط العقلي في اجراء العمليات الفكرية لكشف المجهول ومعرفة حقائق الأمور. فالحيوان في تعريف المناطقة هو الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة وليس الحيوان بمفهومه العرفي الذي يطلق على الدواب بكل أصنافه، فهي أيضاً مما تحله الحياة، ولها عقل خاص بها يتسم بالبساطة، وهو خالٍ من التفكير والتدبر، وهاتان الصفتان هما اللتان ميزتا الإنسان عن سواه .
من هذا المنطلق توجه الخطاب القرآني الى النفس البشرية العاقلة من حيث هذه المواصفات وما تحمله من خصائص، ولكن في المقابل بيّن للبشرية مغادرتها للعقل والتفكر والتأمل وبخاصه في مسألة التوحيد قال تعالى: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وبحسب المصادر أن ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ وردت 14 مرة، وهذا فيه الكثير من التأمل للباحث عن حقيقة العقل وأهميته في القرآن الكريم، وهو الخطوة الأولى في ادراك الأشياء، لذلك صار الشرك صفة مذمومة تجاوزت العقل في ترتيب عمليات التفكير. فعقلَ الشيء أدركه، وعقل المسالة فهمها. وهكذا نفهم أن الخطاب القرآني المذيّل بــ ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هو خطاب لمن غرق في الجهل وتعاطاه حد الثمالة، بدليل ـنه لم يتجاوز المرحلة الأولى للناطقية وهي عملية استقبال المعلومة الذي هو مصداق قوله تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعقلونَ﴾، وهذه الآية هي تصريح خطابي قرآني لتحديد مصير من يعزف عن اعمال العقل في حقائق الأمور ليصل به الى المجهول.
إن التأمل عبادة العلماء والمفكرين والفلاسفة وقد ورد كثير من الأحاديث عن الرسول (ص) وأئمة آل البيت (ع) بخصوص أهميته، لذلك هو أفضل عبادة، فتأمل ساعة خير من عبادة ألف سنة. وتتسم هذه المرحلة (التأمل والتفكر) بالربط بين العلاقات والأسباب ثم تأتي عملية الاستنتاج والوصول الى فهم اعلى وأعظم من مجرد المعرفة، لذا هي مرحلة بعد التعقل. وأكيد أنَّ من فقد التعقل لا يصل الى التفكر والتأمل فالمقدمات أساس النتائج، فاذا فقدت المقدمات انعدمت النتائج فتكون سالبة بانتفاء الموضوع.
على الرغم من ورود آيات في التعقل أكثر من مرة إلا أن ﴿افلا يتفكرون﴾ هي واحدة وهذا طبيعي لأنه مهما تعددت الأسباب فالنتيجة واحدة، لذا فتعدد الاستفهام الانكاري الذي هدفه التوبيخ والتعريض يقرر حالتهم المأساوية فكأن عقولهم عاجزة وقاصرة عن الوقوف على ادراك الحقائق القرآنية او استشعار دلالة الخطاب القرآني في أن هناك إلهاً واحداً لا شريك له وهو خالق هذا الكون. لذلك جاءت ﴿أفلا تتفكرون﴾ بحسب بعض المصادر تعريضاً بعجز عقولهم وقصورها عن التفكير والفهم، وهي المرحلة اللاحقة بعد التعقل فإذا فقد الانسان التعقل، فبالضرورة سيفقد التفكر والفهم لذلك كانت النتيجة ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلْأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾.
في كل ما تقدم فلسفة خاصة في الخطاب القرآني للكشف عن حقيقة البشر فكانت الناطقية علامةً للفكر والتأمل والتفكير الذي هو عملية هضم المعلومة وتقديمها للأخر ليفيد منها في زيادة وعيه وثقافته، من هنا نفهم المعجزة التي قدمها الخطاب القرآني للإنسانية لينتشلها من الجهل والتخلف الى العقل والتفكر، وهذا ملموس في حياة المسلمين. فبعدما كانت حياة العرب بسيطة، وهم يلهثون وراء الماء والكلأ، ولا يعرفون الاستقرار سبيلاً منحهم الخطاب القرآني الحياة الفكرية التي كانت مدعاةً للشعوب الأخرى من غير العرب الى دخول الإسلام وطرق باب العلوم حتى صارت أمة محمد (ص) أمة مفكرة، وصار الفكر والتأمل معجزة أخرى للرسول (ص) الذي انتشل الأمة من غياهب الجهل الى عالم العلم والمعرفة.