م.م. جمانة جاسم الاسدي
كلية القانون
يعد قضاء الإمام علي (ع) ثروة علمية، ولا شك أن التأمل في فكره القانوني يعتبر بحثاً عن القضاء الإسلامي بأعلى مستوياته، وقد أشاد الرسول (ص) بقضاء علي (ع) وقال: (أقضى أمتي علي), و (أقضاكم علي) فضلا عن إشادة الإمام محمد الباقر(ع) بذلك إذ قال: (ليس أحد يقضي بقضاء يصيب في الحق الا مفتاحه قضاء علي)، فالإمام اقضى أهل زمانه لأنه أعلمهم بالفقه والشريعة.
ولا شك ان التفكّر في فكر قضاء الامام علي (ع) يستدعي الوقوف والتطبيق والامتثال به، واتجاه القضاء بوصفهم حكام ليحكموا على أسس مهمة تهدف الى ضمان حقوق الخصوم وعدم الاضرار بهم، فضلاً عن ذلك يحرص الامام علي (ع) على إيجاد قواعد خاصة لضمان نزاهة القضاة وحيادهم وحماية استقلالهم تجاه الخصوم، كما أشار امير المؤمنين الى حماية القاضي من نفسه، التي تدفعه إلى التعسف في استعمال السلطة القضائية او إلى نوع من أنواع التعدي على حقوق المتقاضين، فقد وضع الامام في فكره القانوني حداً لهذه التصرفات التي قد تأثر على نزاهة القاضي وحياده لان القاضي بشر وغير معصوم، فقد وضع الامام علي (ع) اسساً لضمان تحقيق الامن الوظيفي للقضاة.
ومن هذه الضمانات التي أشار اليها الامام علي (ع) هو اختيار الشخوص الاكفاء للقضاء، واستقلال القضاء والرقابة الدقيقة على اعمال القضاء، ومراعاة وحدة الاحكام القضائية، وأيضا تطرق الى حق الدفاع والمساواة بين الخصوم، الا انه لا يسعنا في هذا المقال بيان كل هذه الضمانات وانما سوف نقتصر على حق الدفاع والمساواة بين الخصوم.
فحق الدفاع من الأسس المهمة التي يستند عليها نظام التقاضي في التشريعات المعاصرة، إذ أعطت هذه التشريعات للخصوم حق الدفاع امام القضاء سواء كانوا مدعين او مدعى عليهم في الدعوى، واشترطت حضورهم عند اتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة الخصوم، وذلك لإعطائهم فرصة للعلم بكل هذه الإجراءات والرد عليها، ونجد مصداق لكلامنا عندما حضر الامام علي (ع) بنفسه الى المحكمة للإجابة عن أسئلة القاضي الذي نصبه، وهو بهذا السلوك يدل عملياً على الموقع الممتاز الذي يحظى به القضاء، واستمد الامام على هذه المبادئ من الرسول الأعظم (ص) الذي اوجب على القاضي ان يسمع دعوى اطراف النزاع، فلا يحكم لاحد الخصمين دون ان يسمع كلام الاخر.
اما المساواة بين الخصوم فجعل منها الامام على (ع) قاعدة أساسية في القضاء، فلا يجوز الانحراف عنها، فالناس امام القضاء متساوون وحق اللجوء للقضاء مضمون للجميع ودون ان يكون هناك أي تمييز بينهم بسبب الجنس او اللون او الدين او اللغة او النسب، وتجلت هذه المساواة بأدق صورة لها في عهد الامام علي (ع) عندما ذكر أن الامام علي (ع) خاصم يهودياً عند القاضي شريح فجلس علي (ع) في صدر المجلس وجلس شريح والذمي دونه، وقال علي: (لولا ان النبي (ص) عفا عن مساواتهم في المجالس لجلستُ معه)، مما يتضح من هذا الموقف على وجوب التساوي بين الخصمين في النظر والكلام والسلام، ونضيف على ذلك موقفه من تقسيم اموال بيت المال حينما كان بيت المال يوزع الأموال بالامتيازات بين المسلمين قبل خلافة اميري علي عليه السلام، وذلك بحسب الأسبقية بالإسلام والجهاد والقربة، وعندما أصبح الامام علي خليفة المسلمين وقاضيهم قرر إلغاء هذه الامتيازات، وقال كلمته التي هي أعظم ما قيل في العدل: (إن جهادكم لوجه الله، والله هو الذي يعوضكم، أما الأموال للناس وسأوزعها بالتساوي، ولو كان المال مالي لوزعته بالتساوي، فكيف والمال مال الناس)، فرد عليه الزبير قائلاً: (أتساويني بعبدي وانا من انا!)، فقال عليه السلام: (انا اخذ مثل قنبر وانا من انا)، ولقد عزل الأمام علي (ع) أبو الأسود الدؤلي عن القضاء لما ابلغه ان صوته علا على صوت الخصم، فقال له (لم عزلتني وما خنت وما جنيت)، فقال الامام: (اني رأيت كلامك يعلو كلام الخصم، يتضح من هذه السلوكيات للإمام علي (ع) انه قاضي ذو خلق عظيم كأبن عمه، وانه هو مصدر كل قضاء أصيل وعادل.
ونرى أن على القاضي أن يكون من افضل الرعية، وأن يتمسك بالآداب الشرعية والخلق الرفيع، فقد كانت شخصية الامام علي (ع) مثال من الاصالة والتماسك، فقد ضرب بنفسه أروع الامثال على المساواة المطلقة بين الناس امام القضاء، فالعدالة عنده تستند الى روح التشريع الإسلامي ونصوصه، فهي ليست مجرد فضيلة من الفضائل، بل بوصفها جزءاً من الشريعة، ومصداق ما جاء به الامام علي ورد في كثير من الآيات القرآنية في الحث على الاخذ بالعدالة منها: (أن الله يأمر بالعدل)، فان الله يأمر القضاء وغير القضاء حتى من الناس العاديين ان يكونوا عدولاً، حتى ولو جاء ذلك العدل ضد انفسنا أو الوالدين أو ذوي القربى ولحقنا الضرر من ذلك، وعليه فالإسلام لا يتطلب العدالة من القضاء فحسب، بل هي مفروضة على كل من يملك سلطة أيضاً، فقد اوجبت احكام الإسلام الالتزام والتمسك بالعدالة حتى مع الأعداء، فكلما كان القاضي فاضلا مستقيما عادلاً، فأن الفاعلية العدلية سوف تكون أكبر عند اصدار الحكم القضائي.
لذلك نأمل من المشرع العراقي أن يأخذ بنظر الاعتبار من أجل بناء نظام قضائي عادل، فالقضاء له شأن عالي وجليل القدر في الإسلام، فضلا عن امكانية تطبيق نظرية الفكر القانوني في قضاء الامام علي (ع) كونها نظرية متكاملة في القضاء تفوق نظم القضاء في العصور الحديثة بما تتضمن من عدالة واستقامة ومساواة، فهي من الأدلة العلمية والوثيقة التي يمكن للفقهاء استنباط الاحكام الشرعية منها وتحديد ضمانات التقاضي عند امير المؤمنين.