القٌرْآنُ الْمُدوَّنُ: نزول القرآن الكريم مكتوباً

د. حسن عبد الغني الأسـديّ
كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية

إنّ النّظر إلى القرآن الكريم بهيأته المدوّنة لا ينافي كونه من طريق آخر كان يُنقل شِفاهاً، ومن محاسن هاتين الطريقتين واجتماعهما معاً، ولا سيّما في المراحل الأولى لنزول الوحي تعاضدهما في الحفاظ على القرآن الكريم، وهو يتداول بين الناس. والأخبار في التدوين المبكرة لآيات القرآن الكريم كثيرة، سواء كانت الكتابة على قطع متفرقة أو مجموعة؛ على كل حال فإنّ جمع القرآن الذي أمر به الخليفتان أبو بكر، ومن بعده عثمان بن عفان لم يكن في حقيقة الأمر إلا إعادة نسخ للقرآن المتداول عند الناس، وتوحيدها على نمط واحد من الرسم والقراءة. وما قيل أنّه جرى تدوين القرآن بشهادة شاهدين، ونحو ذلك ففيه معارضة لحقيقة أن القرآن ثبت بالتواتر بل بأعلى درجاته. وقد أفرد السيد أبو القاسم الخوئيّ في مقدمته لتفسير القرآن روايات جمع القرآن ووصل إلى القول:
((إنّ إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم، مخالف للكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل، فلا يمكن القائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه، ولو سلمنا أنّ جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته، فلا ينبغي الشك في أنّ كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدِّمة مكذوبة، وأنّ جمع القرآن كان مستندِاً إلى التواتر بين المسلمين، غاية الأمر أنّ الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظاً في الصّدور على نحو التواتر. نعم لا شكّ أنّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أنْ يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة. قال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك، إنما حمل عثمان النّاس على القراءة، بوجه واحد، على اختيار وقع بينه، وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشّام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن… أقول: أما أنّ عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوْها بالتّواتر عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وأنّه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، أمّا هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضاً. وقد مرّ – فيما تقدّم – بعض الروايات الدالّة على أنّ النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) منع عن الاختلاف في القرآن، ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الامصار بإحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سمّوه بحرّاق المصاحف))( البيان في تفسير القرآن:257-258).
وحبذا لو تمسّك المسلمون ممن يقول بالقراءات بما أقدم عليه الخليفة الثالث من كتابة المصحف على قراءة واحدة لكان في ذلك خير كثير، وسدّ لموطن من مواطن اختلاف المسلمين.
على أنّنا قد نذهب في ذلك جهة تخالف المشهور ممّا يتعلق بكيفية نزول القرآن وهل كان متفرّقاً أول أمره على مدى سنيي مكث رسول الله في دعوته في مكة والمدينة أم أن له إلى جنب هذا البثّ كياناً مكتوباً ومجموعاً نزل به منذ أول الأمر. ونحن هنا لا نذهب إلى الروايات أو الحوادث التاريخيّة في تلك الحقبة لكننا سنلجأ إلى ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل ولا اختلاف فيه لنرى إشاراته بألفاظه وتراكيبه في هذا المجال، فهو أحق بالبيان من غيره، وأجدر بالاستنطاق إن استنطقناه.
نقول: إذا تأمّلنا آيات القرآن الكريم فإنّنا نرى وضوح الهيأة التكوينيّة للقرآن منذ أول أمره، فالقرآن الكريم نصّ على أنّه أنزل في وقت بعينه، وهو شهر رمضان المبارك، قال تعالى:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ…﴾ (البقرة185).
فالآية صريحة في النزول الكامل في هذا الشهر لا النزول الجزئيّ إذ لا دليل عليه.. لاستعمالها لفظة (الْقُرْآن) المعرّفة بأل التي لا شكّ في كونها عهديّة، ما يقرّب هذه اللفظة إلى مرتبة العَلَميّة، ولا يمكن حملها على خلاف ذلك كأن تكون جنسيّة.. فنحن لا نعرف إلا كيانا واحدا هو هذا الكتاب العظيم..
ولقد تتبعنا موارد استعمال هذه اللفظة فوجدناها (50) مورداً. وليس هذا فحسب فبعض تلك الموارد استعملت مع أل العهديّة عنصرا آخر نؤكّد به هذا التدوين، والتكوين عند نزوله وهو استعمال اسم الإشارة هذا للإشارة إلى القرآن (هَذَا الْقُرْآن).. فلولا الكيان المدوّن الذي كتب به القرآن الكريم لما أمكن أن يشار إليه بعنصرين من عناصر التعيين والتحديد؛ هما (اسم الإشارة هذا، وأداة التعريف) اللذان جاءا في تركيب واحد في ستة عشر مورداً في القرآن، هي:
قال تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام19).
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾(يونس37).
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (يوسف3).
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (الإسراء9).
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا﴾ (الإسراء41).
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء88).
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ (الإسراء89).
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلً﴾ (الكهف54).
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان30)
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النمل76).
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ (الروم58).
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ (سبأ31).
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر27-28)
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت26).
﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف31).
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر21).
مع ملاحظة أنّ اسم الإشارة ودخول (أل) التعريف لا يدع مجالاً للقول بغير العهديّة الخالصة للقرآن الكريم، ومن هذا العهد نرى رجاحة الهيأة التدوينيّة التّي نزل بها القرآن الكريم؛ وتمّ تداوله بها، فيتحدد بها كيانه وينضبط بين دفتيه.
فبذا يبعد عندنا في ضوء هذا الاستعمال القرآني للاسم الدالّ عليه احتمال إطلاق لفظة (القرآن) ويراد بها آيات معدودة، أو متفرّقة بل استعماله هذا يفيد بأنّ القرآن هو بهيأته المعروفة الشاملة لجميع آياته، بل يرجح كونه بهيأة (كتاب) لا بهياة نطقية ذلك أن اسم الإشارة أساس استعماله للإشارة إلى الكيان المادي للشيء، أما قوله تعالى:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُـؤَادَكَ وَرَتَّـلْنَاهُ تَرْتِـيلاً﴾ (الفرقان/32)
فيفهم منه أنّ القرآن الكريم لم ينزل كلّه في وقت واحد بل نزل متفرِّقاً، وكأنّ الذين كفروا أرادوا أن يكون لهم من ذلك مطعن على القرآن ورسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فلا مانع أن يكون متفرقاً في مدة هذا الشهر المبارك، ولا سيما أنّ هذا الشهر عرف بشهر القرآن ما يلمح إلى هيمنته الزمنية على هذا الشهر، ثمّ أنّ قولهم (جملة واحدة) يحتمل أنّهم أرادوا أنْ يكون القرآن قسماً واحداً مجملاً، لا أقسام فيه من آيات وسور، وليس مقصودهم أنّه يريدونه أن ينزل كاملاً. ولعلّ ذيل الآية يؤكّد هذا المعنى فقوله: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾، إذ ((الرَّتَلُ: حُسْن تَناسُق الشيء… وكلامٌ رَتَل ورَتِلٌ أَي مُرَتَّلٌ حسَنٌ على تؤدة. ورَتَّلَ الكلامَ: أَحسن تأْليفه وأَبانَه وتمَهَّلَ فيه)) (لسان العرب:3/ 1578، مادة رتل). فهو حسن التقسيم والتنظيم، وعلى هذا فالآية ليست بصدد بيان أنّ القرآن أُنزل متفرّقاً في عدة سنوات.
أمّا قوله تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾ (الإسراء106)
فلا دلالة لها على أنّ القرآن لم يكن قد أنزل كلّه ثمّ أخذ في تعلّمه مرحلة بعد أخرى على مدار عدّة سنوات. وعلى هذا جاء في الروايات أنّ المسلمين في تلك الحقبة كانوا يتعلمون عشر آيات لا يغادرونها إلى غيرها حتى يتمّوها. وهذه التفرقة (بالآيات) كانت عاملاً فاعلاً في حسن تقسيم القرآن الكريم وإمكان حفظ آياته على مدى مكث رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بينهم.
أمّا قولهم بأنّ القرآن أنزل كاملاّ الى السماء الرابعة في شهر رمضان، ثم أُنزل منجماً متفرِّقاً في مدة ثلاث وعشرين سنة، فهو ممّا لا دليل عليه في القرآن، زيادة على أن علة إنزال القرآن الى هذه السماء غير واضحة، وهو أمر لا يعدو أنْ يكون مثيلاً لعدم نزول القرآن لأنّ تحقق النزول مقرون بالتلقي من النبيّ الذي اختاره الله تعالى لرسالته وسماع آياته ونقلها إلى الناس.
مع ملاحظة أنّ استعمال القرآن للفعلين (يمكث وامْكُثُوا) كان بدلاتهما على مدة ليست بالطويلة بل إنّ قوله تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل22) دالّ على ذلك بقرينة (غير بعيد) التي تعطينا دلالة أنّ المكث يستعمل للَّبث اليسير، وأنّه لولا الانسجام الدلاليّ بين مكث، وغير بعيد لما استعمل بعدها. وعلى هذا فما جاء في (الإسراء106) بقوله لتقرأه على مكث، يعني به أنّ هذا المكث غير طويل، وقد يكون مدة شهر رمضان. ثمّ إنّ استعمال القرآن الفعل الماضي (أُنزل) المبنيّ للمفعول فيه دلالة واضحة على مضي الأمر والفراغ منه، وفي هذا تأكيد على أنّ القرآن كان منزَّلاً مفروغاً من إنزاله.
وههنا نلحظ أمراً مهماً في إيراد قرينة لغوية أخرى على أن نزول القرآن كان كتلة واحدة وهو استعمال لفظة (أَنزَلْنَا) في قوله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾ {طه/1-4}
فنزل دالٌّ على هبوط شيء من مكان عالٍ إلى مكان أوطأ منه. أما التنزيل فإنه نزول بتنظيم وتنسيق بوضع كل شيء في موضعه الملائم له لفظة دالّة على مبالغة وتكثير( موسوعة معاني ألفاظ القرآن الكريم د.هادي حسن حمودي:362)، وهذا يقودنا إلى ملاحظة أن نَزّل تنزيلاً ومتعلقاتهما الذي فهم منه المفسرون أنّه دالّ على النزول التدريجي للآيات أو النزول المتفرق للآيات هو في حقيقة الحال دالّ على العكس لمّا ورد في الآية الآنفة الذكر وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ {الفرقان/32} لقرينة (جُمْلَةً وَاحِدَةً) الدالّة على نقيض التفرقة.
من هنا يتّضح أن القرآن الكريم -كالكتب السماوية- قد جرت عليه سنة الله تعالى في إنزالها كاملة لا متفرقة. وهذا لا يمنع من أن يكون بثّ آيات القرآن للمسلمين قد استّمر على مدى سنوات، وقد عُلِمَتْ مواضعُ آياته وأجزائه، كما عُلِمت إشاراته إلى حوادث ستقع في مستقبل السنين رصدتها الآيات المباركة قبل وقوعها بوصفها من الأدلة على أنّه من الله عالم الغيّب؛ ذلك الغيب الذي سيقع علانية أمام المؤمنين به وغير المؤمنين به.