رَقمَنة علوم العربية بين الرفض والقبول

أ.د كريمة نوماس محمد المدني
كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية

هل يمكن للكتابة العربية التقليدية الورقية أن تحيا بخصائصها الجمالية والأدبية واللغوية في ظل الفضاء الإلكتروني؟ صار هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في عالم اليوم. والجواب طويل، ويحتاج الى إجابات لا تغفل عن مناقشة كل ما له صلة بالموضوع، كقضايا نشوء اللغة ومراحل تطورها. ولكن نبدأ من حيث بدأت الممارسة العملية لتأسيس نسق معرفي خاصة باللغة، فالكل يعلم أن اللغة العربية هي منظومة واسعة وكبيرة تنضوي تحتها منظومات تضم مختلف الحقول المعرفية الثقافية سواء المنظومة الدينية من الفقه والفلسفة والأصول والعقائد، والمنظومة اللسانية (من النحو والصرف والدلالة والبلاغة والنقد واللغة والادب )والمنظومة الإبداعية للشعر والنثر أو الحقول الإنسانية الأخرى من التاريخ والجغرافية وعلم النفس وغيرها. وبحكم تطور الحياة ودخول العولمة الكونية الثقافية على مختلف أنماط الحياة المعيشية واستعمال أجهزة الحاسوب بأنواعها، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي أـصبحت منصة النت والشبكة الالكترونية جزءاً مهماً وفاعلاً في حياة المجتمع بمختلف طبقاته ومستوياته.
وقد لحق هذا التطور مختلف الحقول المعرفية فكان للغة العربية بكل علومها نصيب من ذلك، فاسترعى اهتمام الباحثين في الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية، فأخذوا في العقد الأخير من القرن العشرين يعالجون العلاقة ما بين الخطاب الحادث الجديد الذي ولده الحاسوب (الخطاب الرقمي) والفنون والآداب ويبحون كذلك في تجليات الحاسوب وآثاره في وسائل التعبير والتواصل. وفي ظل التطور الالكتروني السائر بوتيرة متسارعة بدأ الابتعاد عن النمطية القديمة في استعمال الورق والكتابة الخطية، وظهر ما يسمى ب(دعاة الرقمية) يسعون الى إيجاد ذلك الباحث الرقمي في عصر المعلوماتية.
لقد أمدت تكنولوجيا المعلومات الفن والأدب بأدوات مختلفة وجديدة فنالت الكتابة الرقمية اهتماماً من لدن المختصين بحجم وجودها ودورها الفاعل، إذ صارت تزاحم الكتابة الورقية النمطية، وقد تحل محلها، كما في امثلة ما صار يعرف ب(الابداع الرقمي/ الكتاب الرقمي). إن مساحة التحرر الذي منحته تكنولوجيا المعلومات للفن عامة والأدب خاصة إنما هو يكسر التسلسل المألوف في الكتابة ويزيل الحدود التي تحد النص فتقيد حجمه ومساحته، فتنشأ طرق جديدة للتعلم وأداء المهارات، وهكذا نشأ النص الرقمي في القصيدة الرقمية والرواية الرقمية والبلاغة الرقمية على سبيل المثال.
إن مفهوم الترقيم كما عرفه سعيد يقطين هو: عملية نقل أي صنف من النمط التناظري أي الورقي الى النمط الرقمي، فيتحول النص بما فيه من الصور والصوت الى منظمة رقمية مشفرة . وعليه عرف بالنص المرقم أي هو النص الذي يحقق بالكتابة الرقمية فضاء معاينته عبر أجهزة الحاسوب بمختلف الأدوات والايقونات المشفرة ،وهذه العلاقة غير مرئية وفي بدايتها ما يسمى سمة الترابط النصي الذي يربط بين معلومتين نصيتين تؤشرها بوصلات الجمل والكلمات والاحرف .
مميزات الكتابة الرقمية

أولاً: تتميز بأنها كتابة أدبية وفنية وجمالية من ناحية، وهي من ناحية أخرى كتابة آلية وتقنية ورقمية تتفرع منها القصيدة الرقمية، والمسرحية الرقمية، والرواية الرقمية والقصة القصيرة الرقمية والنص التفاعلي والمقال الرقمي .
ثانياً: توفر الكتابة الرقمية تقنيات وأدوات وخيارات متنوعة ومتعددة، تثير انتباه المتلقي او القارئ صوتا وصورة، فتظهر الايقونات والصور الملونة وذات الشفرات المناسبة لطبيعة النص الرقمي ، وهي تأثيرات مذهلة للكتابة .
ثالثاً: ان هيأة الشكل الكتابي الرقمي والتوزيع الطبوغرافي يوظف لتجسيد النص محتوى واسلوبا حيث تلعب الصورة المعروضة واتجاهات الشكل المرسوم وحجم الخط المتغاير ولونه أيضا في تجسيد الخاصية البصرية المرئية للنص الرقمي.
رابعاً: إن التلاعب بالصور يخلق مجازاً بصرياً جاذباً، مثل أشكال الاعلام المتنوع التجاري والاقتصادي والتجميلي، ومن أمثلة ذلك القصيدة الرقمية، أي القصيدة الشعرية التي توظف تقنيات الحاسوب بما تنجزه الايقونات من حركات وأصوات، والرواية الرقمية التي توظف تقنيات التكنولوجيا، فلا تقرأ الرواية بطريقة متسلسلة مثلما يرسمها الروائي كالروايات الورقية، بحيث تتفرع العنوانات على صور وأصوات ولقطات وكأنك أمام شاشات السينما.
وأكثر من ذلك، ظهر ما يعرف ب(البلاغة الرقمية)، التي يصفها الدكتور جميل عبد المجيد بقوله: (إن تعبير البلاغة الرقمية إنما تعود فكرته الى ريشارد لانهام في محاضرة له بعنوان (البلاغة الرقمية: النظرية والممارسة والخاصية)، وقد ركز على معالجة علاقة النص الرقمي بالفنون البصرية ما بعد الحداثية، وفي الاطار نفسه يأتي كتاب جورج لاندو (النص التشعبي التقارب ما بين النظرية النقدية المعاصرة والتكنولوجيا).لقد ظهرت اتجاهات متعددة في فهم فكرة البلاغة الرقمية، منها مثلاً الاتجاه التكنولوجي بلاغي، ويسمى بالاتجاه النادر وموضوعه دراسة التفاعل بين الحاسوب والناس، وكيف أن أنظمة التكنولوجيا تبرمج نفسها لتغيير مواقف الناس وسلوكياتهما، وهي ما سميت بالتكنولوجيا الإقناعية، فثمة برمجيات تجعل أنظمة الحاسوب ترسل من تلقاء نفسها إعلانات واستبانات تقييم وتتلقى طلبات واوامر وتغذية راجعة من المستخدمين وطلباتهم، كما ان برامج النمذجة والمحاكاة تقدم برامج تدريبية في مختلف المجالات، ومن أمثلة هذه الفكرة عند الباحثين العرب ما اختص بالبلاغة الرقمية د. حسام الخطيب في كتابه الرائد في هذا المجال (الأدب والتكنولوجيا)، ود. سعيد يقطين (من النص الى النص المترابط: مدخل الى جماليات الابداع التفاعلي)، وكتاب د. فاطمة البريكي (مدخل الى الادب التفاعلي).
إن الرقمنة مثلت جميع العلامات وأنماط التعبير الصوتية والكتابية والبصرية وهذه العلامات تجتمع في أرضية رقمية مشفرة مشتركة وبهذه الشفرة تنجز جميع هذه العلامات وبها تجتمع في خطاب واحد ليصبح خطاباً متعدد الوسائط، إذ يعبر عنه بالصوت والصورة والكلمة في شفرة رقمية مشتركة. وهكذا فللبلاغة الرقمية صلة باستخدام تكنولوجيا المعلومات لخلق حيل تعبيرية ينشأ عنها معنى ومعنى للمعنى أيضاً، وقيم جمالية وتفاعل وتأثير.
المصادر:
1_ الكتابة الأدبية من الورقية الى الرقمية بين عقلنة التأييد وسخرية الرفض: د.حكيمة بوشالالق ،مجلة التحبير ، المجلد 2 ، العدد 1، مارس ، 2020
2_ البلاغة الرقمية: د. جميل عبد المجيد :38