الكاتب (المؤلف): سرمد عادل صاحب حربي
جامعة كربلاء – كليّة العلوم الإسلاميّة – قسم اللّغة العربيّة
ما فتئ المهتم بشؤون الفكر والعامل في أبنيته يستعين في مقارباته وتأمّلاته بما تنتجه العلوم من نظريات ومناهج ، فالفكر يتغذّى وينمو ويتجدد بالاشتغال على المنجزات العلميّة الّتي تكوّن ركيزة رئيسةً من رِكاز النشاط المعرفيّ()؛ ولا غَرْوَ أن فلسفة ما بعد الحداثة وبعد مخاض عسير مرّ بمحطات مختلفة، تكاد تطمئن إلى المتعدد والمتحوّل، بدل اطمئنانها إلى الثابت والمستقر، مما لزم ظهور جملة من المناهج الّتي استطاعت أن تخلق زعزعة ونوعًا من المساءلة، وتضع رؤى الحداثة كلّها في موضع المحاكمة؛ ومن أهم هذه المناهج: المنهج التّفكيكيّ الّذي يُعدّ من أهم مناهج التّحليل الفلسفيّ والنّقديّ، يرمي في مسلك من مسالكه إلى إعادة النظر في مفهوم العلاقة، بعد أن تبيّن له أن كلّ شيء علاقة، وكلّ علاقة تتأطّر بسلطة ما، ولعل هذا الوعي في النهج رسم فيما بعد حدودًا تصوريّةً امتدت تخومها إلى كشف وفهم العلاقات الثنائيّة القائمة على الضديّة، وهي علاقات تحكّمت على مرّ العصور والأزمنة في أنظمة إنتاج المعنى بين الأشياء والأفكار والمجالات، ومن هذه الثنائيات: الأنا / الآخر، السّيّد / التابع، الأبيض/ الأسود، الشّعر/ النثر، الحاضر / الغائب، المطلق / النسبيّ، النظام/ اللا نظام، الأصل/ الفرع، المركز/ الهامش، وغيرها من الثنائيات الضّديّة التي تقوم على علاقة غير متكافئة، يحكمها المنطق الازدواجيّ بين ما هو قويّ مركزيّ، ومستبعد هامشيّ.
والذي يوقفنا ههنا أمران، أحدهما يكشف أن المركز / الهامش ثنائيّة ضديّة تكرّس الأوّل، وتُلغي الآخر، وتجمع شيئين تكوّنت بينهما علاقة ضديّة تنافريّة شبيهة بالصراع بين الدّونيّ والمتعالي؛ وأما الثاني من الأمرين، فيبين في أن التأمّل التّفكيكيّ في هذه العلاقات يُنبئ عن سمة مؤقتة بينها، مما يسمح بانقلاب الأدوار والمواقع، وهذا يعني أن الفرع قد يتحوّل إلى أصل ، كما أن الأصل قد يتحوّل إلى فرع ، كذلك قد يتحوّل الهامش إلى مركز، والمركز إلى هامش ، وبذا يتوالى التغيير والتحوّل في بقية العلاقات، وكأن الحدود على وفق هذا المنحى تتميّع، والفواصل تتداخل، فلم يعد لدينا مركز ثابت نتكئ عليه، وإنما أمست لدينا مراكز متحرّكة لا نهائيّة، تسير جميعها في ظل ممارسات للفرز، وآليات للشطب والإزاحة والتغييب().
هذه الطريقة في بناء العلاقات الضديّة، كوّنت مدخلًا معرفيّا في هذا المقال يروم الكاتب من طريقها قراءة المبادئ المؤثّرة في الثورة الحسينيّة ، وكيف أضحى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الملحمة الإلهية مركزًا بعد أن كان هامشاً.
وأوّل ما يُمهّد له ههنا: يُسبك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تعاليم الإسلام في قالب الفروع، ولا نكاد نستقرّ على هذا القالب حتى يظهر لنا أن بعض فِرقِ المتكلمين في الحضارة العربيّة الإسلاميّة ومنهم ، فرقة المعتزلة، ذهبت في مبانيها الفقهيّة إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصل من أصول الدين وليس فرعا من فروعه، ولكنّهم ومع مرور الزمن، وبفعلِ تعاقب السلطة وسياسة الإقصاء والتّرهيب وتهميش، بدؤوا يحيدون عن هذا المنحى في بناء تصوراتهم، حتى صار هذا الباب عندهم بابا هامشيّا من الزاوية العلميّة, فإذا ثبت هذا الادعاء، ثَبُتَ أن الأمر بالمعروف يتأرّجح في مظان تراثنا الإسلاميّ بين الأصل والفرع.
وعلى الرغم من هذا التأرجح وذاك التّجاذب ، يعدّ هذا الفرع واجبا وفريضة، نجد له اشتراعًا في النصوص التّأسيسية الأولى للدين الإسلاميّ، وأعني بتلك النّصوص: الكتاب، والسّنة النبويّة، وأحاديث العترة الطّاهرة (عليهم السّلام)، ثم إن هذا الواجب والفرض يملك ما يشبهه في الديانات الأخرى ، بيد أنّه لم يؤد الأثر في إتباع تلك الديانات، مثلما أدّاه في أنصار وأتباع دين الإسلام، ولعل سبب ذاك راجع إلى تكوين عقائديّ يتعلّق باجتماع المسلمين وتضامنهم، ومشاركتهم الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) في بناء الدولة، وإقامة مشروع روحيّ وتربوي وأخلاقيّ يضمن للأمّة كرامتها في الدنيا والآخرة ، كذلك قد يكون من الأسباب، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قسم من الديانات الأخرى يلتصق بالسلطة الكهنوتيّة الخاصة من دون التصاقه بالجماعة العامة ، ولعل الوعي بهذا السبب يُعيننا على تفسير نمط من السلوك ظهر في البيئة الإسلاميّة ، أفضى إلى العزلة الاجتماعيّة والاعتناء بالذّات ، وفسح المجال فيما بعد إلى صوغ حياة الدعة والراحة والانكفاء ، وبناء رؤية يتجنّب فيها المسلم حياة الرفض ، وخوض الصّراع، والتّدخّل في مصير الأمّة ومستقبلها، وبذا راح يميل الإنسان إلى الانفراد، وعدم الاندماج في المجتمع، وكأنه خُلِقَ ليحيا عالمه الخاص المنعزل، لا دخل له بما هو مهم، ولا علاقة له بما هو أساسيّ إلا ما ندر().
وأخال أن التّحول الطارئ في نمط سلوك المجتمع الإسلاميّ ، والذي يوحي إلى عملية الاستبعاد والغياب لأفراد الأمّة من جوانب الصوغ الفعّالة في البناء السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ …، جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في عهد الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي زمن حركته العظمى المباركة، موضع جدل تفاضليّ اعتمد أثره، وحضوره في حياة الفرد والأمّة، على علاقتين:
الأولى، علاقة قيميّة تستند على معارضة ومواجهة السُّياسات الفاسدة القائمة آنذاك والثانية ، علاقة انهزاميّة ذليلة خاضعة تحاول أن تغيّبَ وتلغي هذه الفريضة الواجبة ، بغية المهادنة والانقياد ، وبذا أمسى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين علاقتين ضديّتين وصلت إلى حدّ التنافر، تفرض الأولى مركزيّة هذا الفرع ، بينما تسعى العلاقة الثانية إلى تهميشه وتحطيمه وتجاوزه،
والذي بدا ، وإزاء السالف عرضه ضجّتْ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تلك الحقبة الزمنيّة بالتهميش ، وصارت تنأى بنفسها عن كلّ مركز، وتنحو نحو مداخل النسيان والتجاهل ، وأخذ يزيد بن معاوية يلتذّ بحال السكون والشلل الذي هيمن على جسد الأمّة وحياتها ، ليمارس أبشع أنواع القمع والاستبداد ضدّها، حتى وصل الأمر إلى الدعوة بأن الإسلام دين قضاء وقدر، لا يمنح الإنسان أي دور مسؤول ، وأنّه دين يعلّم البشر على توكيل الله (عزّ وجلّ) للقيام بواجباتهم بدلا عنهم ، ولا يجعل لهم الحرية في الاختيار، وإنما الأمر محصور كليّا بإرادة الله ومشيئته وحده ، ولا دخل للإنسان بأي أمر من أمور الحياة الدنيويّة ، وما عليه إلا أن يبقى منتظرا نتائج ، وثمرة ممارسة الربّ لهذه المهام ، وتلك الوظائف، وهكذا أخرجت السلطة الأمويّة المنحرفة وعبرَ ما تمتلكه من أدوات الترهيب ، وآليات القهر والقسر، الفرد المسلم من دائرة الالتزام والمسؤوليّة الاجتماعيّة().
وعلى وفق هذا التّصور، وما دامت سياسة القتل والتهديد قائمة في شلّ إرادة المجتمع المسلم، أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يكشف قدرة الإسلام وطاقته في تحريك الأفراد والجماعات ، وكيف يمكن لورثة الأنبياء (صلوات عليهم) ، أئمة الهدى وأعلام التقوى (عليهم السلام) ومن طريق الممارسات العمليّة الواقعيّة للفروض والواجبات ، وعبرَ الاشتغال بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر وتحويله من الهامش المتدني الذي فرضته السلطة المستبدة ، إلى المركز المتعالي الذي أقرّه القرآن الكريم ورسالة النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن يستنبتوا الأرضية المناسبة لتغيير مراكز القوى ، ومواجهة المنكرات ، وصون الحياة العامة وحُرماتها.
وعلى النهج ذاته استدعى سيّد الشهداء (عليه السلام) آلياته القرآنيّة في الجهاد ليُصرّح بقوله: (إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين) ، ليُنبئ عن شكل آخر، ووضع مختلف، ويقرر المواجهة، ويعلن عن إعادة هذا الفرع إلى موقعه الحقيقيّ، ليبثَه في الفضاء الإسلاميّ العام ، وساحات التَفكير والنقاش ، بعد أن كان صوت الكلام فيه، وفي مشروعيته مكتوما صامتا.
ومن حافة أخرى ، لم يقف سيّد شباب أهل الجنّة (عليه السلام) من هذا الفرع عند حدّ إعادته للمركز، وتحطيم دائرة تضييقه من لدن الجبت والطاغوت فحسب، وإنما جاوزه ليرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى المستوى الأول من مبادئ الثورة؛ فإذا علمنا أن ثورة عاشوراء تأطّرت بثلاثة مبادئ رئيسة ، أوّلها امتناع الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) من مبايعة يزيد بن معاوية ، بعدما فُرضت عليه البيعة على نحو الإكراه ، وقد أتى الرفض الحسينيّ عِبرَ قول الإمام (عليه السلام): (إنّا أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي ، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله( ، وثانيها تعلّق في دعوة أهل الكوفة للإمام (عليه السلام) ، بعد أن أصبح الإمام في موضع المُطالَب بتقديم البيعة الإلزاميّة ، الأمر الذي أفضى إلى هجرة سيّد الشهداء من المدينة إلى مكة ، ومن ثمّ الهجرة إلى العراق ، أما المبدأ الثالث فقد استمد حضوره ، وقيامه من فريضة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا جاز لنا في نهاية المقال إصدار أحكام قيميّة إزاء السالف ذكره من المبادئ ، تبدأ من الأدنى أثرا إلى الأعلى قيمة ، أمكننا القول(): إن هذه العوامل ليست متساوية من جهة قيمتها ، ودرجة أهميتها، وإنما ترد متفاوتة ؛ فمبدأ دعوة أهل الكوفة مثلا ، لم يكن يكوّن إلا مبدأ ثانويا ؛ لأن المتأمّل في من أعلن استعداده لنصرة الإمام (عليه السلام) لم يكن مركّبا من الأمصار والولايات الإسلاميّة كلّها ، وإنما كان مبدأً جزيئا يقتصر على ولاية واحدة ، وأعني الكوفة , أما المبدأ الثاني فيُعطى قيمة أعلى لنهضة أبي عبد الله (عليه السلام) ، من قيمة دعوة أهل الكوفة ؛ لأن كلمة (لا) بوجه السلطة الجائرة آنذاك كانت تمثّل عملا استثنائيا يعرّض صاحبه إلى التعذيب والتنكيل والقتل.
وعليه يأتي المبدأ الثالث في القيمة الأعلى ، ليضغط بثقله على أركان السلطة الفاسدة وأعمدتها، فيهزّها هزّا حتى لكأنّها تُجبر على شروط المواجهة التي أخبر بها النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونفّذها أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، وهكذا وبفضل الدّماء الطاهرة التي أريقت بصحراء كربلاء، لم يعد هذا الفرع من فروع الدين تصوّرا مهمّشًا في الذاكرة الإسلاميّة الجمعيّة ، وإنما أمسى مركزا يكتسي بأهمية بالغة، فلا وجود لنهضة تنبني على ثقافة التغيير الكلّيّ إلا به.
فالسلامُ عَلَى الْحُسَيْنِ وَعَلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلى أولاد الحسين وعلى أنصار الحسين (عليهم السلام).