فرنسا وحرية التعبير

أ.د. عدي حاتم عبد الزهرة المفرجي
كلية التربية للعلوم الإنسانية- قسم التاريخ

 

إن النظام السياسي الفرنسي منذ إعلان جمهوريته إبان الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ رفع شعار النضال من أجل العلمانية ولا شيء فوق العلمانية. ومع أن الأديان تعد في عرفهم ثقافات تنظم السلوك البشري, وتندر تحت سقف حرية التعبير لكن الواقع صار يقول شيئاً آخر مختلفاً, لا سيما في تعمد بعض أصحاب الإعلام الفرنسي لأكثر من مرة وبخاصة إدارة تحرير شارلي ايبدو تكرار الإساءة للنبي المصطفى ويبدو أن الأمر ممنهج بوساطة مالك الإعلام الموجه وهو الحركة الصهيونية العالمية. إن حرية التعبير الفرنسية ثمرة من ثمار عصر النهضة الأوربية وعصارة أفكار ونظريات الفلاسفة الفرنسيين منهم (جان جاك روسو) في كتابه (العقد الاجتماعي) الذي رتب العلاقة بين المجتمع والدولة برابط اسمه العقد الاجتماعي, وبه منح المجتمع الفرنسي حرية التعبير والراي ليس مع الدولة أو الملك فحسب بل تعدى الى سلطة الكنيسة التي أصبحت تحت مرمى النقد, تلك الكنيسة الكاثوليكية التي تضامنت قبل الثورة الفرنسية مع الملك ضد أماني وطموحات الشعب الفرنسي ووضعه تحت مطرقة الاستبداد والدكتاتورية. أما الفيلسوف الثاني (فولتير) في كتابه (رسائل فولتير) فقد فتح شهية العقل الفرنسي الى الحرية والانعتاق من اغلال الماضي وترسباته, ومن سطوة رجال الدين والاقطاع والنبلاء, وزرع الثقة في قلوب الفرنسيين وكتابه عبارة عن رسائل متواتره اطلقها من منفاه في إنكلترا عكست حرية الراي والتعبير في المجتمع البريطاني, وربما كان للنظام الديمقراطي ودور البرلمان البريطاني وتأثيره في سياسات الملك هو ما استدعى الانتباه لتلك القضايا المصيرية. كانت رسائل فولتير بمثابة رسائل تبشير بعهد الحرية وبفجر جديد للإرادة والرأي الحر, لذا فالثورة الفرنسية ثورة فلسفة حررت العقل من اغلاله وتراكماته, ومن الأوهام الملتصقة بفعل ماضي أوربا الأسود في العصر الوسيط . وبفعل قوة عجلة التغيير الاوربية وظهور عصر القوميات أي الدول القومية المؤمنة بالاستعمار. وهنا تحول الفرد الأوربي الى مستعمر بفعل عقلية السوق والربح والاستثمار والفوقية وكتابات فلسفية أخرى لعبت بعقله وحولته الى فرد عنصري غير متسامح وبخاصة التي كتبت من رجال الدين الحاملين لعقيدة التبشير. وبفعل ذلك غزت أوربا العالم وهيمنت فرنسا على مناطق شاسعة من العالم. والمدرسة الاستعمارية الفرنسية عرفت بالتعصب والغطرسة, وتنكرت لكل مبادئ وقيم الحرية والتسامح, وهذا ما أوضحه الفرنسي (غي دوبشير ) في كتابه (تشريح جثة الاستعمار) وفيه صورة واضحة للبشاعة التي يحملها المستعمر الفرنسي في أفريقيا ورفعه لشعار لا للمجتمع الذكوري وقتل كل الذكور واستعباد النساء ونهب خيرات افريقيا. هذه البشاعة الاستعمارية امتدت الى تاريخنا المعاصر كما في احتلال الجزائر 1830 وتونس 1881 والشام بعد الحرب العالمية الأولى, وقتل المواطنين الأبرياء من الشعب الجزائري بما قدرته المصادر بمليون شهيد, بل امتد الي يومنا هذا بمحاربة العقبة القوية وهو الدين الإسلامي ورمزه النبي المصطفى صل الله عليه وآله وسلم .وأرى أنه لا يمكن فرض حدود فاصلة للتعبير عن الرأي بالقوة وبخاصة في مجتمع أوربي مثل فرنسا وفضلاً عن عدم شرعبة العنف فإن القوة لا تنفع لأن العنف يولد عنفاً, ويمكن أن تثار المدارس الفرنسية القديمة ضد الاسلام ومنها الاستشراقية. فمن الأفضل احياء وبعث الحياة في العالم الإسلامي, في نظمه السياسية ومؤسساته وحتى مجتمعه عن طريق الوحدة والتضامن والاتفاق والوعي بأن التصدي هو بالحوار والنقاش والتفاهم وتغيير الصورة النمطية التي التصقت بذهنية العالم الغربي عن الإسلام, وبخاصة كسب المجتمع الفرنسي ومفكريه ليكونوا هم من يحتج على هكذا تصرفات, فهم أداة قوية في التغيير. ولعل في مقدمة ما ينبغي التفكير به هو احياء المؤسسات الإسلامية ودفعها إلى اتخاذ دورها الإيجابي مثل منظمة المؤتمر الإسلامي, وأن نظهر أن المجتمع الإسلامي صديق لكافة الأديان والمذاهب ومدافع جيد عن الحرية واحترام ثقافة الآخرين, والرد بالوسائل الحضارية المنسجمة مع القوانين, وروح العصر الحديث, من صحافة واعلام, وهو ما يفترض أن تنهض به النخب والمثقفون وصناع الرأي من أهل الحكمة والدراية.