أ.د علي كاظم المصلاوي
كلية التربية للعلوم الإنسانية
للهامش في الدراسات العلمية الاكاديمية أهمية بالغة لا تقلُّ عن أهمية المتن شريطة الوعي به وبأهميته تلك، ولربَّما كانت قوَّة المتن من قوَّة هامشه والعكس صحيح أيضاً. وهذا معناه إِنَّ قوة شخصية الباحث تتمثَّل -أيضاً- في تحركه العلمي بما يغني متنه وهامشه في آن معاً؛ ومثلما للمتن حقوق فإِنَّ للهامش حقوقاً أيضاً على الباحث أن يتوخَّاها اذا ما أراد لعمله النجاح والتفوّق.
ففي بعض الرسائل والأَطاريح نجد خمولَ الهامش فيها إِذ اكتفى باحثها في معظم صفحاته بالإحالة إِلى اسم المصدر الذي أخذ منه أَو قدَّم عليه كلمة ينظر: ، ولم يتعب نفسه أكثر من ذلك ، فيظن أَنَّه قد أدَّى ما عليه ولا يعلم أَنَّ ما فعله ما هو الا بداية الحديث مع الهامش. فالحديث مع الهامش يطولُ حتَّى يرتقي مع الباحث الموهوب إِلى أَنْ يجعله فنَّا يجيده. وأولى تلك الأُمور الاعتيادية الواجبة التي عليه توخِّيها بدقَّة وباطراد من أول عمله إِلى آخره هي استخراج الألفاظ الغامضة وتوضيح معناها وبخاصة من كان متن دراسته مؤلفاً قديماً أَو ديوان شعر. والأَمر الثاني هو ترجمة الأَعلام الواردة في المتن والاحالة إِلى المؤلفات المعتبرة في نقل الترجمة، وليس الركون إِلى ما هو شائع متيسَّر بين أيدي الباحثين وبخاصة إِذا كان العَلَمُ من القدماء، وكذلك نلحق به التعريف بالأماكن والحِرَف وغيرها. والأَمر الثالث هو التعريف بالمصطلحات الأَدبية أَو النقدية أَو اللغوية وغيرها الواردة في المتن المدروس أَو تلك التي يستعملها الباحث اثناء تحليله أَو تعليقه، فغالباً ما يسأل الباحث عن مصطلحات وردت في متنه لم يعرف معناها، ولربَّما احتفظ ذهنه بمعنى خاطئ لها .والأَمر الرابع تخريج الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة من كتب الحديث المعتبرة، وأقوال الحكماء والبلغاء والأدباء من كتبهم الخاصة أَو من كتب ترجمت لهم واعتنت بأقوالهم، وإِذا لم يفعل ذلك أُخذ عليه وكان دليل نقص في عمله. والأَمر الخامس هو الاحالة لنماذج أخرى غير التي ذكرها في المتن أحصاها الباحث ووثَّقها وكانت دعماً لما يذهب إِليه من رأي، وغالباً ما يتهاون الباحث في عملها فيعطي صورة ضعيفة له ولعمله.
وإِذا مضينا إِلى أعمق من ذلك حين يقوم الباحث بالتحقيق ورصد الروايات المختلفة وبخاصة في الأشعار المروية من كتب التراجم والكتب الادبية العامة حين يقارنها برواية الديوان المحقق تحقيقاً علمياً، وهنا لربَّما يجد رواية الكتب أدق في المعنى وأصوب وأقرب لما قصده الشاعر من رواية الديوان أَو العكس؛ أَو أَنَّ هذه الأَبيات مما لم يعثر عليه في الديوان المحقق أصلا؛ أَو انَّه وجد رواية مختلفة كليَّاً أَو جزئيَّا عن رواية الديوان؛ أَو يجد تقديماً أَو تأخيراً في أَبياتها عما هو موجود في الديوان المحقق؛ هذه الأُمور لو عمد إِليها الباحث في دراسته لارتفعت قيمة هامشه وعمله معاً.
ولعل هناك من يرى هذا الأَمر من شأن الباحث وعليه الالتزام به وتوخِّيه في عمله، أقول نعم هو من صميم عمل الباحث إِلَّا أَنَّنا نجد في كثير من الدراسات تهاوناً من الباحث في ضبط النصوص وتشكيلها في المتن، وإِذا خرَّجها من مصدرها من الكتب وغيرها اكتفى، وإِذا وُجِّهَ من لدن المناقشين بوجوب الرجوع إِلى الدواوين المحققة والتأكد من وجودها وضبطها امتعض كثيراً وهو يقول في نفسه أَنا اعتمدت على مصدر أقدم من الديوان، ومحقق تحقيقاً علمياً على يد محقق كبير قدير فَلِمَ بعد ذلك عليَّ الرجوع إِلى ديوانه؟؟ ولم يلتفت إِلى الفائدة التي تدرُّ عليه من هذا الرجوع العلمي المنهجي، فهو قد يزيد على ما جاء به المحقق ويأتي بمعلومة مضافة إِلى رصيد هذا الشاعر أَو ذاك، ولربَّما فتح عليه مستدركاً على ما فات المحقق من شعره.
وإِذا مضينا أعمق مما ذكرنا تجسيداً لحيوية الهامش وقوَّته وعدم خموله ما نجده في هوامش الأَعمال الناجحة إذ وُفِّقَ باحثها في استثمار هامشه خير استثمار وملأه بما هو مكمِّل وموضِّح لموضوعه، ويزيدُ القارئ معلومات وأفكاراً ورؤى لم يكن محلها المتن فيكتب في هامشه محيلاً إِلى تلك الافكار والرؤى بعبارات: للاستزادة ينظر…أَو للتوسع ينظر… أَو ناقش أَو عرض هذا الرأي فلان في كتابه كذا …وغيرها من العبارات الدالة على إِحاطة الباحث بموضوعه، وعدم الاكتفاء بما هو معروف متوافر من آراء.
ولربَّما يعرض الباحث في متنه رأياً ما لأحد العلماء أَو النقاد في سياق لا يستطيع معه أن يناقشه مناقشة علمية دقيقة، وإِذا ما عمد إِلى ذلك في متنه شطَّ به بعيداً عن غايته ومرماه من متنه، واذا تركه لم يجد محلَّا أخر أَنسب منه، فتلمس في الهامش ما يعينه على ما التفت إِليه من رأي وراح يناقشه ويبيِّن وجهة نظره فيه.
هذه الأُمور التي عرضتُها ولربَّما فاتني منها أكثر حين يحققها الباحث ليس في صفحة أَو اثنتين من عمله وانما – كما قلت- تطَّرد في عمله ويواظب عليها فانه سيعطي للقارئ صورة عنه وعن عمله ككل متمثلة بالمتانة والضبط العلمي الدقيق والرصانة البحثية، والجديَّة في إِخراج العمل على أُصوله العلمية الاكاديمية، وهذا ما نعتُّهُ بالحيويَّة التي ينبغي أَن يتحلَّى بها الهامش؛ وإِذا ما كان الهامش بهذه الصورة فكيف سيكون المتن ؟ لذا أقول خاتماً: لا ترض -أخي الباحث أختي الباحث – أَنْ يكون هامشك خاملاً كسولاً فقيراً يدلُّ على فقرك المعرفي وهزالك البحثي، وإِذا كان كذلك فليس من شأنك البحث العلمي الرصين.