أ.م. د. عهود ثعبان الأسدي
كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية
اتفقت آراء عدد كبير من الباحثين على أن لوسيان غولدمان() هو الذي تبلورت على يديه البنيوية التكوينية() بشكل واضح في النقد الأدبي، مفيدا ممن سبقه.
فقد أفاد كثيرا من الناقد المجري الهنغاري جورج لوكاتش(1885- 1971) الذي التقى به عام 1944، وأعجب كثيرا بكتبه(الروح والأشكال)، و(نظرية الرواية)، و(التاريخ والوعي الطبقي)()؛ لأنه “وجد فيها أقانيمه الجمالية الثلاثة،[…] الشكل والبنية والشمولية”()، فصار المنبع الفكري له، ولاسيما في تحديد منهجه البنيوي التكويني(). ولذلك “عقد لوسيان غولدمان لواء السوسيولوجيا الأدبية والبنيوية التوليدية لجورج لوكاش”().
ورأى باحثون أن تبلور البنيوية التكوينية كان على يد لوكاتش وغولدمان معا()، وأن تطوير غولدمان لما أنجزه لوكاتش في نقده للرواية وتاريخه لها، كان “تعميقا لهذا التيار السوسيولوجي الذي يربط ربطا عضويا بين العملية الإبداعية والظاهرة الاجتماعية في مختلف تجلياتها وتطورها”().
ففي(الروح والأشكال) ربطٌ بين الإبداع والواقع المعيش، وفي(نظرية الرواية) تشديد على أن الرواية نتيجة فنية لوعي متميز للتاريخ؛ ولذا لم يهتم لوكاتش بتحليل النص الروائي وبيان خصائصه، بقدر اهتمامه بمتابعة الوعي التاريخي المنبعث منه().
وقد ارتبط غولدمان بلوكاتش على المستوى التاريخي الاجتماعي()، وسار على نهجه “في رفضه مفهوم العلاقة البسيطة والمباشرة بين مضمون العمل الأدبي وبين الإيديولوجيا الخفية التي تتحكم في فكر الفئات الاجتماعية وسلوكها، وكذلك المصالح والأهداف والآمال التي تسعى إلى تحقيقها، فهو يبحث عن بنيات الإيديولوجيا المتبلورة والمتجسدة في العمل الأدبي، ليقابلها بالبنيات الاجتماعية بحيث يستطيع تعريف طبيعة العمل ووظيفته، وفي الوقت نفسه طبيعة الإيديولوجيا الاجتماعية السائدة وأثرها في فكر الناس وسلوكهم”().
وكذلك أفاد إفادة كبرى من الفيلسوف والعالم النفسي جان بياجيه (1896- 1980) الذي توثقت علاقة غولدمان به إداريا وعلميا، بعد أن توسط في عام 1943 للإفراج عنه حينما سجنه النازيون عام 1942()، وارتبط به فيما بعد على المستوى المعرفي().
ومن هنا شرع غولدمان بالتفكير بإمكانية إجراء تقارب بين الفكر الماركسي الذي تشرب به، والنظرية التكوينية للمعرفة التي أعطاها جان بياجيه صفتها المميزة، وحين قام بذلك أعجب جان بياجيه بتلك المحاولة(). ولذلك وجدنا من يرى أن أكبر ممثلين للمدرسة البنائية التي تطلق على نفسها التوليدية، هما جان بياجيه وغولدمان، “إذ يقدم الأول تصورا نظريا متكاملا عن البنية، بينما يتولى الآخر تطبيق هذا التصور في مجال الدراسة الاجتماعية للأدب”()، وأن أفكار بياجيه كانت “تمثل الأرضية الانثروبولوجية لأبحاث جولدمان التي استوعبها إلى حد الإشباع ولاسيما تلك التي تتعلق بالعلوم الإنسانية من حيث هي دراسة للظواهر التي تنشأ عبر سلسلة من العمليات التي تشترك فيها الذات الجماعية خلال مدة طويلة من الزمن. وبعبارة أخرى فإن الظواهر الاجتماعية لا تنشأ بشكل فوري، وعلى ذلك فإن من الخطأ أن تدرس هذه الظواهر دون أن نعود بها إلى البنية الشمولية الدالة التي هي نشاط تلقائي يزاوله الأفراد دون وعي أو بوعي خالقين بذلك مثل هاتيك البنى”().
ويرى بياجيه في محاولة أولى لتعريف البنية “أنها نظام من التحولات يتضمن قواعد خاصة- كنظام- بمعنى أنها تختلف عن خصائص العناصر المكونة لها، وتتم المحافظة عليه أو إثراؤه من خلال لعبة التحولات نفسها التي لا تتجاوز حدود النظام ولا تلجأ لعناصر خارجية عنه، وعلى هذا فإن البنية تتضمن ثلاث خصائص هي الشمول والتحول والتحكم الذاتي”().
وأشار عبدالله الغذامي إلى مفهوم البنية عند بياجيه مفيدا مما كتب عنه، قائلا: طرح بياجيه للبنية “تعريفا يكاد يشفي غليل كل متطلع إلى تعريف محدد. وذلك حين قال إن البنية تنشأ من خلال(وحدات) تتقمص أساسيات ثلاث هي: 1- الشمولية. 2- التحول. 3- التحكم الذاتي”().
ثم ذكر ما يبين التفصيلات، بقوله: “فالشمولية تعني التماسك الداخلي للوحدة، بحيث تصبح كاملة في ذاتها، وليست تشكيلا لعناصر متفرقة، وإنما هي خلية تنبض بقوانينها الخاصة التي تشكل طبيعتها وطبيعة مكوناتها الجوهرية[…] ولذا فالبنية تختلف عن الحاصل الكلي للجمع؛ لأن كل مكون من مكوناتها لا يحمل نفس الخصائص إلا في داخل هذه الوحدة. وإذا خرج عنها فقد نصيبه من هاتيك الخصائص الشمولية”(). وينتج عن ذلك أن “البنية غير ثابتة، وإنما هي دائمة(التحول) وتظل تولّد من داخلها بنى دائمة التوثب. والجملة الواحدة يتمخض عنها آلاف الجمل التي تبدو جديدة، مع أنها لا تخرج عن قواعد النظم اللغوي للجمل. وهذا(التحول) يحدث نتيجة(لتحكم ذاتي) من داخل البنية. فهي لا تحتاج إلى سلطان خارجي لتحريكها”().
ومفهوم البنية عند غولدمان ينطلق من تصور بياجيه لها، “الذي يرى أن البنية توجد عندما تتمثل في العناصر المجتمعة في كلّ شامل، بعضُ الخصائص المميزة، ولكنه يأخذ على أستاذه أنه يقصر مفهوم البنية على المظهر الثابت، بينما تعتبر عمليات التوازن بدورها أبنية نشطة يتعين على الباحث في كل مجال على حدة أن يحدد طبيعتها ويرصد حركتها. ثم يستخدم جولدمان مصطلح البنية مضفياً عليه مدلولات متعددة طبقا للسياق الذي يرد فيه”(). فغولدمان يقصد بالبنية في دراساته عن باسكال وراسين وغيرهما “النظام أو الكل المنظم الشامل لمجموعة من العلاقات بين عناصره؛ هذه العناصر التي تتحدد طبقا لعلاقاتها داخل الكل الشامل، ولكنه يستخدم البنية في كتابه(نحو اجتماعية القصة) بمفهوم الشكل القصصي أحيانا، والنظام الداخلي للقصة أحيانا أخرى، ثم يقرن هذا المفهوم الأخير بالبنية الفكرية والاجتماعية للعصر”().