م.م. زينب محمد ياسين
كلية التربية للعلوم الإنسانية
تعد ليبيا من الدول غير المستقرة في القسم الشمالي من أفريقيا، إذ تشهد تدخلات سياسية خارجية جاءت على إثر أزمات وانقسامات داخلية بين شرق الدولة وغربها. إذ يسيطر المشير خليفة حفتر على جهة الشرق وجنوبها، ويحظى بتأييد من قبل معظم القوى الدولية مثل روسيا وبعض دول الجوار الجغرافي كمصر، فضلا عن دول إقليمية منها الإمارات، بينما تسيطر على الجهة الغربية حكومة الوفاق الوطني حيث العاصمة طرابلس، وهي الأخرى تحظى باعتراف دولي، وتتلقى الدعم من بريطانيا وتركيا وقطر.
وانطلاقا من التهديد الذي أصدره سيف الإسلام نجل الرئيس السابق معمر القذافي – قتل على يد الثوار الليبيين بداية الربيع العربي في العام 2011 – بحرق الآبار النفطية الليبية، في حال استمرار المظاهرات المعارضة للنظام انفتحت شهية بعض الدول لبسط نفوذها على مكامن النفط الليبية(1)، إذ تعتبر ليبيا من الدول الغنية في النفط والغاز، وتمتلك احتياطات نفطية هائلة تقدر بنحو(48) مليار برميل، إضافة إلى احتياطات النفط الصخري بسعة (26) مليار برميل مؤكدة حتى نهاية(2) (2023)، فضلا عن ثروات معدنية كالحديد واليورانيوم والذهب وغيرها من المعادن والخامات النادرة. إن كثيراً من تلك الثروات الطبيعية لا تزال غير مستثمرة، وهي تقع ضمن الصحراء الشاسعة في جنوب البحر المتوسط ، وتقدر مساحتها بحوالي (1750250) كيلومتر مربع تحدها مجموعة من الحدود يبلغ طولها (6500) كم منها (4550) كم حدود برية، و(1950) كم حدود بحرية ، ناهيك عن الثروة السمكية بما تمتلكه ليبيا من ساحل طويل مطل على البحر المتوسط.(3)
الصورة: ميناء طرابلس الليبي
ليس من الغريب إذن ان تتدخل دولة كالإمارات العربية المتحدة في الشؤون الداخلية لليبيا بذريعة تقديم المساعدات الإنسانية في الجانب الشرقي من ليبيا، وتحديداً في مدينة بنغازي، على شاكلة التدخل في الشأن الداخلي اليمني، فاليمن تعاني هي الأخرى من مشكلات وانقسامات وفوضى للأسباب المتقدمة نفسها. وقد تأسست مجموعة موالية للإمارات العربية المتحدة، وهي فصائل المجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن حيث النفط والجزر والموانئ أيضاً. وهي بذلك تحرص على بسط سيطرتها، للحيلولة دون نهوض ميناء عدن لئلا ينافس موانئ دبي العالمية .(4)
تتبع دولة الإمارات الاستراتيجية ذاتها في ليبيا، حيث عمدت لتقديم كل الدعم العسكري واللوجستي لقوات خليفة حفتر، المعارض السابق للنظام، والعائد من المهجر لممارسة العمل السياسي في ليبيا بعد العام 2011، وبالفعل، نجح حفتر بالقضاء على العمليات الإرهابية التي انتشرت بسبب وجود أكثر من مجموعة محاربة، وامتدت مناطق نفوذه وصولاً الى جنوب ليبيا، ثم شنّ بعد ذلك هجوماً على غرب الدولة في العام 2015، إلا انه لم يتمكن من تحقيق مآربه .(5)
يمكن تحديد أهم الأهداف التي تسعى الإمارات العربية المتحدة لتحقيقها في ليبيا بالآتي:
1 – الأهداف السياسية: يحرص الجانب الإماراتي على الظهور كقوة إقليمية فاعلة ذات وزن جيوبولتيكي على الساحة السياسية الدولية، خاصة بعد تراجع دور الولايات المتحدة الامريكية في منطقة الشرق الأوسط إلى حد ما، وذلك لانشغالها بالحرب في أوكرانيا. إنها تريد إيجاد كيان موالٍ لها، حفاظاً على امتدادها الجيوستراتيجي في المنطقة، وقد وجدت في ليبيا بيئة خصبة لتحقيق هذا الهدف. وبالرغم من عدم وجود مشتركات جغرافية بين الدولتين، إلا أن الإمارات جعلت من مصر جسراً للوصول الى الحدود الشرقية لدولة ليبيا من خلال علاقاتها الوطيدة بالسلطة المصرية(6)، هذا فضلاً عن توافقها الآيدولوجي مع حفتر في معادة جماعة “الاخوان المسلمين” في ليبيا الذين يتخذون من انقرة مقراً لهم، ومن المعلوم أن تركيا تدعم الجانب الغربي في ليبيا.
2 – الأهداف الاقتصادية: وتتمثل بالرغبة في الهيمنة على الموانئ الكبرى، والتحكم في محطات النقل العالمية في ليبيا، التي لها موانئ مهمة على البحر المتوسط مثل مصراته، والخمس، وبنغازي، وطبرق. كما عمدت الإمارات العربية المتحدة للسيطرة على ميناء البرقة في الجانب الشرقي، وتسخيره للأغراض المدنية والعسكرية، ويأتي ذلك ضمن مشروع الإمارات في بناء مجموعة من الموانئ البحرية، لكي تصبح جزءاً من المشروع الصيني: “حزام واحد – طريق واحد”، وهو ما يمكنها من أن تغدو طرفاً فاعلاً في التجارة العالمية؛ وتفرض وجودها بين القوى الكبرى كالولايات المتحدة الامريكية والصين، كما أن الموانئ الليبية بوابة للحصول على النفوذ في أكثر من مسلك للنقل الإقليمي؛ لخلق توازن سياسي وعسكري، بعيداً عن الهيمنة الإيرانية على مضيق هرمز.
إن تعاظم النفوذ الإماراتي أدى الى ازدياد الصراعات والانقسامات في الداخل الليبي، فقد جزأ المجزأ، وأثر سلباً في النسيج الاجتماعي، فبرزت ولاءات سياسية وقبلية متعددة تُعرف في الجغرافية السياسية بالقوى المفككة (Centrigugal Forces)، وهي تظهر عندما تفتقر الدولة الى مبدأ البقاء والقوة، فيتهدد أمنها وسلامتها (7) ، وكانت الولايات المتحدة الامريكية نفسها قد تدخلت في الشأن الليبي محاولة فرض خياراتها في سياق التنافس على المصالح والنفوذ في المجالات الحيوية للقارة الأفريقية السمراء، فشرعت بالضغط على اصدقائها من الدول الإقليمية بتقليص اشكال دعم العمليات العسكرية، والحفاظ عل السيادة الليبية، الأمر الذي أدى الى تراجع الدور الإماراتي نسبياً. ولكن لحرص الإمارات على استدامة المنافع الاقتصادية فإنها سرعان ما غيرت من استراتيجياتها(8)، فاستضافت عدداً من المسؤولين الليبيين للعمل على إيجاد حلول للأزمة، وصياغة دستور لتحديد شكل الدولة الليبية كما تدعي؛ تأتي في هذا السياق حكومة عبد الحميد الدبيبة، وهي حكومة مؤقتة تشكلت في 1/ 3/ 2021، وتم اختياره في ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي عقد في جنيف؛ فقد عقدت معه صفقة تمكنها من إدارة المنطقة الحرة في مدينة مصراته، وجزء من ميناء مصراته لمدة لا تقل عن 40 عاماً، مما أثار حفيظة الأوساط الشعبية الليبية؛ بسبب حصول الامارات على الحصة الأكبر في المشاريع، إذ تبلغ حصة شركة بترول أبو ظبي “ادنوك” (60%) في المشروع، بينما لا تتعدى حصة شركة النفط الوطنية الليبية (9) (40%)
ووفقاً لما تقدم يمكن القول إن التدخل الإماراتي في الشأن الليبي، وعدم التزامها بقوانين منع توريد الأسلحة لليبيا الذي فرضته الأمم المتحدة كان له أثر كبير في ازياد حالة الصراع الداخلي في ليبيا في الوقت الذي تسعى فيه للنهوض من كبوتها، وبناء الدولة الجديدة القائمة على الانتخابات، ومع ذلك فهي ليست السبب الوحيد في إطالة أمد الصراع الليبي، فثمة مشاكل أخرى متراكمة، كما أن الأطراف السياسية الليبية منقسمة بين التأييد لعقد الصفقات مع الإمارات أملا بتحسين التنمية الاقتصادية، وبين من يرى في التواجد الإماراتي استغلالاً للموارد الوطنية، وأن المساعدات الإنسانية التي تقدمها، والتحول في تعاملها مع الملف الليبي من التكتيك العسكري الى التكتيك الدبلوماسي ليس سوى مظلة لإخفاء المطامع الاقتصادية المتطلعة للهيمنة على المنابع النفطية والموانئ الليبية. ومن الجدير بالذكر إن الإرادة الدولية تكون متناغمة في كثير من الأحيان مع التدخلات الإقليمية، وإن أظهرت عكس ذلك، ما دام ذلك لا يمس مصالحها ، ولا ريب في أن لهذه الدول إمكانيات سياسية ومقدرات عسكرية قادرة على إنهاء التدخلات الإقليمية، وحلِّ الأزمة الليبية برمتها إن هي أرادت ذلك، ولكن أقطاب السياسة الدولية متنافرون، وكثير منهم يغلبون الفوائد المادية على القيم الإنسانية، وعليه، فإن نتائج سياسة اللامبالاة لن تكون في صالح الشعب الليبي، ولا في مصلحة المنطقة برمتها.
المصادر
1) عصام عاشور، ليبيا ملف مفتوح، مجلة شؤون عربية، العدد 178، 2019، ص 107.
2) احمد السلطان، النفط الليبي تداعيات الاغلاقات النفطية المتكررة، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 9/1/2024، يتوفرعلى الرابط: https://ecss.com.eg/42783
3) خالد محمد بن عمور، إشكالية الجغرافيا السياسية للدولة الليبيية وأثرها على الاندماج والهوية – منظور جغرافي سياسي، المجلة الليبيية العالمية، العدد 42، 2018، ص3.
4) جريجوري دي جونسون، المصالح الاستراتيجية الثلاث للأمارات في اليمن، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، 2022، يتوفر على الرابط: https://agsiw.org/ar/the-uaes-thre
5) عبد الروؤف الجروشي، أثر التدخل الدولي على الصراع الدولي الليبي في مرحلة ما بعد القذافي، المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، 2023.
6) كشان رضا، التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية وتداعياته على الأمن القومي العربي: دراسة حالة ليبيا، المجلة الجزائرية للدراسات السياسية، مج 7، العدد 2، 2020، ص11.
7) عبد المنعم عبد الوهاب، صبري فارس الهيتي، الجغرافية السياسية، جامعة بغداد، 1989، ص 86.
8) حازم حمد موسى الجنابي، مقدمة في علم الاستراتيجية دراسة ثلاثية (المفاهيم- النظريات – المعايير)، ط1، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، المملكة الأردنية الهاشمية، 2022، ص 47.
(9تقرير الصحراء الغربية ، ماهو مخطط الامارات لافتراس ليبيا، منشور بتاريخ2023/12/26 ، يتوفر على الرابط: https://www.splsahara.org/?p=8059