اللهجات العربية الحديثة

اللهجة، لغة: لهج فلان بكذا وكذا: أي: أولع به… واللهجة: طرف اللسان، ويقال: جرس الكلام ويقال: فصيح اللهجة، واللهجة، وهي لغته التي جبل عليها، فاعتادها، ونشأ عليها، واللام والهاء والجيم اصل صحيح يدل على المثابرة على الشيء وملازمته… يقال: لهج بالشيء إذا أغري به وثابر عليه… وقولهم: هو
فصيح اللهجة، واللهجة، اللسان بما ينطق به من الكلام، وسميت لهجة، لان كلا يلهج بلغته وكلامه (١) .
ومما يتضح من كلا النصين اللذين يبينان معنى اللهجة توافر لفظة (اللغة) فيها, ذلك ان الترادف بين (لهجة) و (لغة) معروف عند القدماء. والعلاقة بينهما عند المحدثين كالصلة بين الخاص والعام ((فاللغة تشتمل عادة على عدة لهجات، لكل منها ما يميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية، والعادات الكلامية التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات)) (٢). فاللهجة بيئة خاصة تنتمي اليها مجموعة من الصفات اللغوية يشترك فيها جميع افراد هذه البيئة، واللغة هي بيئة اوسع واشمل لأنها تضم عدة لهجات لكل منها خصائصها, ولكنها تشترك جميعاً في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال افراد هذه البيئات بعضهم ببعض.
وقد بدا لبعضهم أن يعرّف باللهجة العربية العامية الحديثة فقال: ((هي لغة فصيحة موضوعة في عصور مختلفة للتعبير عن الافكار بقوالب كثيرة اصطلح عليها ابناؤها في كل قطر وبكل وقت فلاكتها الألسن وتلاعبت بها التصرفات، فتغيرت أساليبها وتلونت ألفاظها بين فصيحة محرفة، أو مصحفة وأجنبية دخيلة ومرتجلة غريبة، ولحن شائع، وتصرف شائن، حتى بعدت في بعض الوجوه والاساليب عن اصلها الفصيح ومؤداها البليغ، فكادت من هذه الوجوه تكون لغة قائمة بذاتها)) (٣), وهذا التعريف ينسجم في النتيجة مع ما تقدم من ايضاح لمصطلحي اللهجة واللغة بحسب الفهم الحديث، ولكن يلاحظ فيه بعد عاطفي يظهر بالمنحى الايجابي في النظرة إلى اللغة الفصيحة من جهة، والنظرة السلبية إلى اللهجة العامية الحديثة من خلال عبارات يفهم منها وصفها بالانحراف عن الأصل الفصيح من جهة أخرى.
أولى الدرس اللغوي الحديث عناية واضحة باللهجات الحديثة دراسة ووصفاً ومقارنة، يدل على ذلك ن اعلى سلطة لغوية عربية وهي المجامع اللغوية وضعت من اولوياتها الاهتمام بدراسة اللهجات الحديثة، فممّا نص عليه مرسوم انشاء مجمع اللغة العربية في مصر، تنظيم دراسة علمية للهجات الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية، وقد شكلت على إثر ذلك لجنة مهمتها متابعة تلك الدراسة التي تتضمن التقريب بين الفصحى ولهجاتها، والدعوة إلى ازالة الفوارق بين لهجات البلاد العربية، والسمو بها جميعاً إلى اللغة الفصحى، ودراسات في العامي والفصيح وغيرها من الموضوعات المهمة.
إن النظر العلمي في اللهجات الحديثة المنطوقة في البلاد العربية، أو التي تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة من طبقات المجتمع، قد يفتح آفاقاً واسعة للبحث في طرائق تطور اللغة وتأثرها بالبيئة الجغرافية، وبالمظاهر الاجتماعية، فضلا على أن ذلك ربما يساعد على توضيح الصلة بين اللهجات العربية الحديثة واللهجات العربية القديمة، وطريقة تحول الاصوات من مجهورة إلى مهموسة، أو العكس، وطريقة انقلاب الاصوات من شديدة إلى رخوة وغير ذلك، مما تعرض له النظريات الصوتية وقوانينها.
أما علاقة العامية المحكية بالفصحى فما زالت في جميع البلاد العربية قوية وملاحظة فهي ((أدنى إلى الفصحى منها قبل جيل مضى. وقد مرنت الألسنة على ضرب من النطق الصحيح، ومرد ذلك إلى عوامل في مقدمتها: ازدياد عدد المتعلمين وتقلص ظل الامية، واقبال الناس على المطالعة والقراءة)) (٤)، وما ((العامية إلا الفصحى نفسها محرفة، أو ملحونة، وفي لهجات التخاطب ألوف من الكلمات يمكن رد الاعتبار اليها واجازة استعمالها بشيء من التخريج)) (٥).
ولعل هذا الفهم هو ما دعا بعض الدارسين لتداول بعض العبارات التي تكاد تصل إلى مستوى المصطلح في دراسة اللهجات الحديثة مثل (العامية الفصيحة) أو (الفصيح العامي) أو(العامية الجديدة) (٦)، أي أن العامي كان فصيحاً في عربية ما غبر من قرون، لكنه تدنى مستوى ودرجة في اللسان الدارج، فصار عاميا لا يلتزم به المعربون في كلامهم وكتابتهم، وهذا التدنّي، أو التحول مردّه أن دلالة الكلمة الفصيحة قلت الحاجة اليها، وزالت عن حيز المستوى الفصيح فانكفأت في العامية، وقد سد غيرها مسدها فبعدت عن اهتمام المتكلمين، أو أنها كانت تنتمي إلى لغة خاصة في بيئة معينة، فلم يكتب لها الشيوع واتساع الاستعمال، وهي فصيحة، فنزلت بسبب ذلك إلى العامية، ثم ان اكتسابها صيغة جديدة، أو تعرضها لشيء من القلب والابدال، أو الزيادة والنقصان مما يزيد من ابتعادها عن سمتها الفصيحة(٧).
واستنادا على كل ما تقدم، فإن السعي لتوثيق فصاحة بعض الالفاظ الدارجة وسيلة مهمة من وسائل التقريب بين اللغة المكتوبة ولغة التخاطب , وصولاً إلى التوحيد اللغوي من جهة وقضاء على الازدواج اللغوي الذي ينظر إلى اللغة على انها شطران: عامي وفصيح من جهة أخرى.
•مصادر ومراجع:
١-ينظر: ( لهج).كتاب العين. الخليل بن أحمد الفراهيدي. تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ٣٩٠/٣-٣٩، و : مقاييس اللغة. أحمد بن فارس. تحقيق: عبد السلام هارون .دار الكتب العلمية٢٥١/٥.
٢-في اللهجات العربية- د. إبراهيم أنيس. مكتبة الأنجلو المصرية١٦.
٣-اللهجات العربية: بحوث ودراسات . مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة ٥٢٨.
٤-المرجع نفسه ٥٥.
٥- المرجع نفسه ، والموضع نفسه.
٦-العربية تاريخ وتطور . إبراهيم السامرائي. مكتبة المعارف ٣٥٩.
٧- المرجع نفسه٣٠٢.

أ.م.د. خالد عباس السياب.
جامعة كربلاء- كلية التربية للعلوم الإنسانية. قسم اللغة العربية.