أحياناً تبدو لنا الحياة وكأنها سلسلة طويلة لا تنتهي من الامتحانات, لا نكاد نخرج من أحدها حتى يداهمنا الآخر. وما بين ربح وخسارة, ومواجهة وهروب, قد تتاح لنا فرصة لالتقاط الأنفاس, وتقييم النتائج. لكن لا أحد سيمنحنا شهادة نجاح. ذلك أننا وحدنا من سنقرر إن كان من الأنسب لنا خوض التحدي أم الانسحاب منه, مثلما أننا المسؤولون عن مراقبة أنفسنا أثناء ذلك, وعن اعطائها نسبة النجاح أيضاً. هذا إن لم تلهنا التفاصيل اليومية عن فعل ذلك. لكن ماذا عن الامتحانات التي تجريها معاهد التربية والتعليم؟ فالحديث عنها سيستدعي التفكير بسياقات وأجواء وآليات أخرى لها صلات وثقى بمستقبلنا جميعاً. وإن كانت في حقيقتها إحدى الصور اللامتناهية لامتحانات الحياة. ثم ماذا أيضاً عن الامتحانات الإلكترونية التي لجأت لها أنظمة التعليم في العالم العربي – اضطراراً لا خياراً – بعد أن اجتاح فايروس كورونا كل زاوية من زوايا العالم, وجعل من شبه المستحيل إنجاز الامتحانات الدراسية بالصيغة المتعارف عليها لسنين طويلة؟ وفي كل الأحوال, لابدّ لمن يريد النزول إلى البحر من أن يتقن السباحة أولاً, وإلا فإن فرص بقائه على قيد الحياة لن تكون واعدة. وما لم يتم البدء من الآن بمراجعة التجربة الجديدة, وجمع البيانات عنها, ودراستها بمنهجية علمية حقيقية, فلا أتصور أن الأمور ستمضي وفقاً لما تنشده المؤسسات التعليمية العربية, التي كانت تواجه في الأصل, وقبل تبنيها للتعليم الإلكتروني قائمة طويلة من المشاكل, فيما يتصل بفلسفة النظام التعليمي القائم الذي لم يشهد مراجعة منذ عقود, وبنيته التحتية ومناهجه وكوادره, فضلاً عن مخرجاته التي تُركت بلا خطط تحديثية.
ضرورة الامتحان وشرعية المراقبة
يعد الامتحان آلية مفيدة لقياس الأداء, فهو اجراء يتيح للأستاذ التعرف على نسبة تحصيل الطلبة من نواتج التعلم, ويوفر له فرصة لاكتشاف مواهبهم, وامكاناتهم المتباينة بحكم الفروق الفردية, لكي يتيسر له العمل على تنمية وتطوير قابليات تلامذته. والكلام هنا عن الحالة المثالية التي يفترض أن تكون. وبالرغم من وجود الكثير من الأشكال التي يمكن بوساطتها أداء الامتحان (أفضل تسميته اختباراً), إلا أن نظم التعليم العربية بقيت تفضل طوال السنين التي مضت, نمط الامتحان الكلاسيكي التحريري, أي أن يستخدم الطالب قلماً وورقة (دفتراً في الامتحان النهائي) ليجيب على أسئلة تتصل بمواد المنهج الدراسي التي تعلمها. في حين لم تكن تولي نموذج الامتحان الشفوي الأهمية ذاتها, فكانت درجات التقييم المخصصة له لا تتعدى العشرة بالمئة من مجموع الدرجة, وقد لا نجد من يعتمده إلا في المراحل التي تسبق الدخول إلى الجامعة. أما الامتحانات العملية ذات التوجه التطبيقي فليس لها وجود معتد به إلا في أقسام العلوم الصرفة, وكأننا نتناسى أن توفيرها والاهتمام بها في حقول العلوم الإنسانية له فوائد حقيقية أيضاً.
أما المراقبة (أفضل تسميتها بالإشراف), فمع كل التداعيات ذات السمة الاكراهية المهددة للأمن, والمنتهكة للخصوصية والحرية الفردية التي لحقت بها في ذهن الإنسان العربي لارتباطها بهيمنة نظم الحكم الدكتاتورية التي تحصى على الفرد أنفاسه, أقول مع ذلك كله إلا أننا سنستبق تفاصيل الحديث لنؤكد إنه ليس في الوسع اجراء امتحان ناجح من غير توفر مراقبة ناجحة, ما دمنا نلجأ لأساليب امتحانية بذاتها. ولعل من المفيد هنا استذكار مغزى المراقبة وما يمكن أن تنتجه من آثار, بحكم اعتمادها في سياقات عمل مختلفة, وفي ألوان الحياة الاجتماعية أيضاً. وسنتأكد لحظتها أنها ليست شراً في مطلق الأحوال, بل إن في وسعها أن تكون ضامناً لنجاح كثير من الأعمال والمشاريع التي تستدعي الاشراف والمتابعة الميدانية المباشرة. وقبل كل شيء لا بد من أن نفهم على نحو واضح لا لبس فيه أننا نتحدث هنا عن (invigilation) تحديداً, وليس عن (voyeurism), أي عن مراقبة سير امتحان وليس عن (تلصص). واستناداً لذلك, فالمراقبة لا تجعل من الطالب موضوعاً للفرجة, وهي في الوقت ذاته أيضاً لا تمثل فعل تلصص من الأساتذة المراقبين, بل إن عكس ذلك هو الصحيح تماماً. بمعنى أن الأستاذ المراقب, الذي يشرف على سير الامتحان (Exam invigilator) هو في الحقيقة من يسعى لمنع التلصص الذي قد يلجأ إليه بعض الطلبة, حين يحاولون نقل الإجابة عن سؤال يجهلون اجابته الصحيحة من أوراق أو دفاتر زملائهم, منتهزين فرصة انشغال الأستاذ المراقب بشأن ما, مثلما أنه يسعى لمنع الغش بأية وسيلة أخرى.
وهكذا تأخذ المراقبة معنى إيجابياً, لتغدو مثل أي إجراء قانوني تنفيذي لا غبار عليه. وفضلاً عن ذلك, فهي اجراء غير قسري, إذ سبق أن ارتضاه ووافق عليه كلًّ من المعلم والطالب بحكم قبولهم لشروط المؤسسة التعليمية التي ينتمون إليها. ولا يمنع من ذلك وجود طرف يقوم برصد سلوك طرف آخر, فالفعل هنا يأتي في سياق التأكد من أن الامتحان يتم بشكل طبيعي, من غير انتهاك للقوانين التي لا تحرّم الغش فحسب, وإنما تعاقب عليه بشدة أيضاً. ذلك أن الغش هو الغش, ولا يمكن تبريره أو القبول به حتى في أشد الحالات كارثية, مثل تفشي وباء كورونا اليوم. وتأسيساً على ذلك فإن الغش فوق كونه خطأ أخلاقياً كبيراً, ومخالفة قانونية فاضحة, يقف بالضد من مبدأ التعليم نفسه. أقول ذلك بكل يقين, ولكم أن تخمنوا ماذا ستكون نتائج غياب الرقابة أثناء الامتحان لو أن شاباً في مقتبل العمر يؤدي اختبار الحصول على (اجازة سوق), ونجح في الامتحانين النظري والعملي لا بسبب اتقانه لقواعد قيادة المركبات, وإنما بسبب غياب الرقابة أو تهاونها؟ هل غير أن المسؤولين في لحظة مصادقتهم على اجازة السوق يوشكون في حقيقة الأمر على التسبب بحوادث سير تعرض حياة الناس الأبرياء لأخطار حقيقية.
عدالة لا معاقبة
والحق إن مراقبة الامتحان تستند لأحد أكبر المبادئ إنسانية في التاريخ, وهو مبدأ العدالة. ونجاحنا في تحقيقها في ميدان التربية سوف يعني -من بين ما يعنيه- أننا سنقدم مثالاً مبكراً وضرورياً للجيل الذي سيتحمل المسؤولية بعد سنوات قليلة, مثالاً يجعلهم واثقين من أن العدالة ممكنة التحقق, وأن الإنسان الكفوء النزيه -وليس المحتال على القوانين- هو وحده فقط من سينعم بثمار التقدير وفرص التوظيف وسائر ما توفره مؤهلاته التي اكتسبها بجهده من صور النجاح. تبعاً لذلك فإن أي امتحان للطلبة, في سائر مراحل الدراسة, يقتضي توفر ضمانات كافية بأن ينال جميع الطلبة استحقاقهم الواقعي, من غير زيادة ولا نقصان. وتلك الضمانة ستتكفل بها المراقبة. فنحن إذن لسنا بإزاء شكل من أشكال ما اصطلح عليه ميشيل فوكو ب (المراقبة والمعاقبة), وإن كانت ثمة شواهد تؤكد على أن الامتحان والمراقبة في مدارسنا ومعاهدنا التعليمية العربية كانا يأخذان –أحياناً في الأقل- شيئاً من ملامح ما تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي. وربما سيتذكر هنا كثير منا تلك النبرة الغاضبة في صوت معلم يطالبنا فجأة بتهيئة ورقة وقلم (طلعوا أوراق وأقلام, باللهجة العراقية) من أجل امتحان غير مخطط له, امتحان لا صلة له من قريب أو بعيد بنمط الاختبار السريع الموجز, المعروف بين أوساط الدارسين عندنا, لاسيما في حقل الدراسات العلمية باسمه الإنجليزي (Quiz), بقدر ما هو اجراء عقابي لما اعتبره المعلم خروجاً من الطلبة على قواعد السلوك. كما قد يتجسد ذلك أيضاً في لهجة الوعيد بأن تكون أسئلة الامتحان القادم أسئلة صعبة. وهذا النمط من السلوك غير مفهوم, ولا مبرر, وندرة حدوثه لا تقلل من خطورته, إذ إن فرض النظام, واعادة الهدوء للصف الدراسي يمكن أن تتوافر في أساليب أيسر وأنفع. ويفترض أن يكون المعلمون أكثر الناس معرفة بها, وتمرساً فيها أيضاً, بحكم طبيعة عملهم, وتعاطيهم مع شرائح عمرية صغيرة, أو في بداية مرحلة الشباب. وهو ما يتطلب أن يكون كل الذي يصدر عنهم من أفعال أو ردود أفعال محسوباً, وصالحاً للاقتداء.
أما عن المراقبة, أو (الإشراف) على الامتحان مثلما أفضل, فلم يكن تطبيقها يخلو من اشكالات, ولعل القريبين من أجواء التعليم, قد تناهى لهم شيء من همس الطلبة الدائر بين أروقة الدراسة, والذي قد يصل في تعليقاتهم أحياناً إلى حد التذمر والشكوى, مثلما تجسده منشوراتهم في بعض وسائل التواصل الاجتماعي, من أن بعضاً من الأساتذة المراقبين -لاسيما في الامتحانات النهائية- يتعسفون في تطبيق القوانين, ويتحركون في أجواء من الشك والريبة, تجعل من أية حركة عفوية لا إرادية من الطالب محلاً للاتهام, أو حتى تصرفاً يستحق عليه التأنيب. فضلاً عن سلوكيات أخرى تؤثر سلباً في أداء الطالب أثناء الامتحان, كالانفعال, والصوت العالي أثناء الحديث, وعدم التفاعل مع أسئلة الطلبة. أما أكثر ما يمكن أن يتردد في هذا السياق فيظهر حين تكون قاعة الامتحان قد أصبحت شبه فارغة منذ وقت مبكر إلا من طالب أو طالبين, فعندها قد يلجأ بعض المراقبين إما إلى الحديث فيما بينهم بما يتنافى مع جو الهدوء الذي يفترض أن يسود القاعة الامتحانية, أو يعمدون لإبداء تذمرهم من الطلبة المتبقين, بطريقة غير مباشرة, مثل توجيه أسئلة للطالب الممتحن, ليس من حقهم السؤال عنها أصلاً (لماذا لم تكمل مبكراً مثل بقية الطلبة؟ ألا تعرف الاجابة؟ كم سؤالاً تبقى لك؟), أو حتى تكرار الإشارة إلى المتبقي من زمن الامتحان بطريقة مستفزة, بما يزيد من قلق الطلبة, الذين يكونون في اثناء الامتحان أكثر الناس حرصاً على الوقت, إذ إن بضعة دقائق فقط قد تعني تحديد مستقبلهم بأكمله.
وإذا شئنا مقاربة دوافع ذلك السلوك, فربما ستكون العودة لمبدع فرنسي آخر كفيلة بإيضاح ما نحرص على تبيانه وفهمه من موضوعة التعسف بالمراقبة. لا شك إن أغلبنا قد قرأ رواية (البؤساء) وهي الأكثر شهرة في تاريخ السرد الأدبي, أو وقف -في الأقل- على تفاصيل قصتها من السينما. دعكم عن (جان فالجان) وعذاباته, وأجّلوا تعاطفكم مع معاناة الطفلة المسكينة (كوزيت). ولنتذكر مثال المحقق (جافير) شبح الانتقام وسيف المعاقبة المسلط, الذي دفعه فهمه المغلوط للقانون -هو أحد رجاله بالمناسبة- لكي يرفض على الدوام فكرة الخطأ الإنساني قصداً أو عفواً. إن فكتور هوغو يمنحنا بكل براعة درساً ثميناً لمعنى العدالة التي قلنا إن مراقبة الامتحان تستند إليها, فتلك الدوغمائية العجيبة في أنموذج المحقق (جافير) جعلته غير مستعد أصلاً ليتقبل أفكاراً مثل الغفران والتوبة والمسامحة. ولهذا لم يكن يقيم وزناً لروح القانون, لأنه لا يؤمن أصلاً بأن القوانين إنما وضعت من أجل الإنسان وليس عكس ذلك. وأنا هنا بطبيعة الحال لا أريد التقليل من جهد غالبية الأساتذة المتحلين عن جدارة بصفة المعلم الملتزم, أولئك الذين يجدون أنفسهم مسؤولين أخلاقياً عن تقديم أفضل المهارات العلمية لطلبتهم, مشفوعة بالقيم النموذجية للسلوك القويم (تربية وتعليم). إن أمثال هؤلاء هم الذين يكونون عاملاً أساسياً فاعلاً في تسهيل سير الامتحانات على أكمل وجه, وليس ذلك بالمهمة اليسيرة أبداً, فالمسؤولية الكبيرة, وقائمة المهام التي بانتظارهم طويلة حقاً, وليس هنا موضع بسطها. وذلك كله يتطلب من طواقم الإدارة المسؤولة في مؤسسات التعليم تقدير تلك الجهود, والاحتفاء بها مادياّ ومعنوياّ.
كيف تراقب امتحاناً عن بعد؟
بعد توقف أكثر مؤسسات المجال العام في سائر دول العالم, إثر تفشي وباء كورونا, كان التعليم عن بعد هو الخيار الوحيد لاستمرار عمل ما يمكن عده عقل المجتمع, أي المدارس والمعاهد والجامعات. عربياً, وفي ظل غياب الخبرات الكافية التي تضمن جعل التعليم الإلكتروني في مستوى الطموح, لاسيما فيما يتصل برصانة الامتحانات توجب البحث عن حلول أخرى لم تكن في عداد المفكر فيه قبل أشهر قليلة فقط. فقد تم السماح للطالب بالرجوع إلى الكتب المنهجي للإفادة منه في أثناء تأديته للامتحان. ومع أن هذا الفعل لم يعد يمثل غشاً, غير إن ثمة أسباباً أخرى تستوجب مراقبة الامتحان, واعطاء أولوية للتأكد على نحو لا يقبل الشك من أن الطرف الآخر الذي يقوم بالإجابة على الأسئلة ثم ارسالها للمؤسسة التعليمية هو الطالب المعني نفسه منذ لحظة بدء الامتحان حتى نهايته. صحيح أن أغلب المؤسسات التعليمية العربية اعتمدت المراقبة عن طريق برامج تتيح متابعة الطالب بواسطة الكاميرا, لكن لم يكن هذا الاجراء عاماً, وثمة ما يؤكد اقتصار تطبيقه على بعض الطلبة لا كلهم, بل أحياناً كان يتم الاكتفاء بدقيقة أو دقيقتين من المراقبة لا أكثر, ولطلاب ذكور في الغالب. وقبيل أشهر قليلة فقط كانت التعليمات الرسمية تلزم مراقب القاعة الامتحانية على أن يحرص كل الحرص على قراءة الهوية التعريفية لأي طاب ممتحن, والتأكد من أنها عائدة له بالفعل, قبل السماح له بأداء الامتحان. وربما لو كانت الإدارات التعليمية المسؤولة في كثير من الدول العربية قد تأكدت من مستوى كفاءة نظام المراقبة الإلكتروني بوضعه الراهن لكانت قد لجأت إليه أيضاً في امتحان السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية (امتحان البكالوريا في العراق, الثانوية العامة في مصر), بدلاً من ذهاب الطلبة إلى المراكز الامتحانية, في ظروف تشهد نسبأ مرتفعة لمعدلات الإصابة بفايروس كورونا. هذا بالإضافة لما يفرضه ذلك من كلف باهظة, وعمل دؤوب يبدأ من تعقيم الدفاتر الامتحانية قبل نقلها من أماكن التخزين, ثم تعقيمها مرة ثانية قبل تسليمها للطلبة, والعودة لتعقيمها من جديد وفقاً للمسار الذي ستأخذه, والتأكد من أن قاعات المراكز الامتحانية كافية لاستيعاب الطلبة بما يتناسب مع قواعد التباعد, وإن تعقيمها قبل الامتحان يتم بشكل يومي. ولنضف إلى ذلك ضرورة وجود من يقيس درجة حرارة الطلبة قبل السماح لهم بالدخول إلى المركز الامتحاني, فضلاً عن إدامة التنسيق, والتواصل المستمر بين الأجهزة التعليمية والصحية والأمنية.
ترى كيف ستسير الأمور في العام القادم, فيما لو استمر تنامي الوباء؟ شخصياً, لا أتصور أن تخزين بيانات الطلبة في المنصّات الامتحانية الإلكترونية, لكي يتم التأكد من هويتهم, وتتم متابعتهم وهم يمتحنون أمراً مستحيلاً. حتى ذلك الحرج الذي قد لا يشجع على شمول الطالبات بالمراقبة الإلكترونية, لاسيما في البيئات المحافظة يمكن ايجاد حلول كثيرة له, إما عبر الحوار المباشر والصريح, أو حتى اعتماد فريق من التدريسيات للقيام بمهمة المراقبة الإلكترونية, لاسيما وأن نسبة الإناث هي الغالبة في مؤسسات التعليم العربي.
لست من المولعين بتتبع الأخطاء دون النجاحات, فذلك في تصوري عامل تثبيط للهمم, فضلاً عن عدم جدواه أصلاً. لقد انتهى العام الدراسي, أو هو على وشك الانتهاء في غالبية الدول العربية. وربما نحن متفقون جميعاً على أنه كان عاماً صعباً وطويلاً بالفعل, شهد تحديات واخفاقات, قد يكون أغلبها راجعاً لعدم امتلاكنا للخبرة التقنية الكافية, التي تجعل الإفادة من ثراء العالم الرحب للتعليم الإلكتروني أمراً متاحاً بكل يسر. ومع ذلك, فقد قُدمت فيه -بلا شك- جهود حقيقية تستحق التقدير. كما أُتيحت فيه فرص للنقاش في قضايا تم تناسيها منذ سنوات بعيدة, تعود لصلب نظام التعليم العربي. وكأننا كنا بحاجة إلى هزّة بحجم هذا الوباء الكبير لنبدأ بالتفكير فيها من جديد. ولعل هذه الكلمات التي تتابعونها الآن تأتي في هذا السياق ذاته. لست من الخبراء في مجال التقنية لأنصح باعتماد هذا البرنامج الإلكتروني أو ذاك. بل أفضل ترك ذلك للمختصين, ليقرروا إن كان من الأنسب لنا اللجوء إلى شركة رصينة متخصصة لها خبرات حقيقية في ميدان التعليم ونظم المعلومات, ولها أيضاً قدرات مشهودة في توفير البيئة الإلكترونية الآمنة (Security system), أم كنا قادرين على تجاوز العقبات بأنفسنا بمزيد من بذل الجهد واكتساب الخبرات السريعة. ومع هذا, فأنا أجد في كثير مما يكتب وينشر عن الموضوع من قبل أناس غير مؤهلين نوعاً من التحذلق, أو تهويمات غير مبررة في قضايا تخصصية بالغة التعقيد. وربما كانت الغاية منها عند بعضهم مجرد رغبة في الظهور بمظهر من يعرف عن نظام التعليم الإلكتروني أكثر مما يعرفه الآخرون, في حين إن الحقيقة ليست كذلك مطلقاً. ولعله ليس من العسير على أي واحد منا أن يجد في الأعم الأغلب من نماذج ذلك الكلام المكرر نسخاً حرفياً ونقلاً مباشراً من ثلاثة مصادر غربية, أو أربعة في أحسن الأحوال, مع تغيير بسيط في العناوين أحياناً, ومن دون إشارة للمصدر. إن ما أنا متأكد منه تماماً هو ضرورة دراسة وتقييم تجربة التعليم الإلكتروني, والتفكير الجدي بطبيعة نظام الامتحانات وآلية الإشراف عليها. وهي الدعوة التي بدأنا بها كلامنا هذا. لكي يُتاح لنا قياس نسبة تحصيل الطلبة مثلما تقدم. وإن كنت أعرف جيداً أن لا وجود لطريقة مثالية تمنع الغش بشكل تام, لا المراقبة المباشرة للطلبة في قاعات الامتحان, ولا عبر النظام الإلكتروني أيضاً. إن تقدم مسار التعليم وازدهاره مرهون في الحقيقة بمدى قدرتنا نحن الأكبر سناً على الإيمان بفكرة الحداثة, وثقافة النقد البناء والمراجعة الواعية. وعلى تمكننا بعد ذلك من الارتقاء بوعي طلبة المدارس والجامعات, واقناعهم بأن صعود أنموذج الإنسان العصامي المتطلع للنجاح بوسائل قانونية نزيهة لا يزال أمراً ممكناً في مجتمعاتنا العربية, بل ومرحباً به بحفاوة واحترام أيضاً.
عباس عبيد
جامعة كربلاء/كلية التربية للعلوم الإنسانية/قسم اللغة العربية