يواجه العالم منذ الربع الأخير من عام 2019 أزمة صحية تمثلت باكتشاف فيروس كورونا لأول مرة في الصين لينتقل بعد ذلك كالنار في الهشيم الى أغلب دول العالم ليصبح فايروس عابر للقارات، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الفيروس أصبح جائحة عالمية سبب مأساة إنسانية وصحية كبيرة أودت بحياة (850878) ألف شخص واصابة نحو (2.540.660) شخص بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية لغاية 31/8/2020.
وفي هذا السياق، اتخذت كثير من دول العالم التي اصابتها الجائحة جملة من الإجراءات الاحترازية في محاولة منها للتقليل من حدة الآثار السلبية لانتشار الفيروس ومنها إجراءات التباعد الاجتماعي وإيقاف كلي وجزئي للأنشطة الاقتصادية لتتحول الجائحة الى أخطر أزمة إنسانية وصحية واقتصادية واجتماعية انعكست على مجمل أوضاع الاقتصاد العالمي.
وعلى الرغم من إن الفيروس من ناحية طبية يضرب كل الافراد بدون تمييز إلا إنه من الناحية الاقتصادية أصاب وبشدة الفئات الهشة والفقيرة وذوي الدخول المحدودة من العمال لا سيما العاملين في القطاع غير الرسمي في الدول النامية والدول الناشئة.
وقد تحولت الأزمة بالفعل الى صدمة أصابت أسواق العمل، وحدثت صدمة عرض (صدمة في الإنتاج) وصدمة طلب (استهلاك واستثمار) مما انعكس على فقدان الوظائف في الكثير من القطاعات الاقتصادية وعلى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم نتيجة للقيود والإجراءات التي اتبعتها الدول لمواجهة تفشي الوباء.
وتشير تقارير منظمة العمل الدولية International Labour Organization (ILO) الى إن للصدمة تأثيرات بعيدة المدى في سوق العمل، فضلاً عن المخاوف بشأن صحة العمال، وأشار التقرير الى إن الصدمة تؤثر في ثلاثة أبعاد رئيسة وهي، كمية الوظائف (البطالة والبطالة الناقصة)، وجودة العمل (الأجور والحصول على الرعاية الاجتماعية)، الى جانب التأثيرات على مجموعات محددة تكون عرضة للنتائج السلبية في سوق العمل( ).
وبعد تفشي الجائحة، أصدرت منظمة العمل الدولية تقارير دورية لتقييم أوضاع أسواق العمل خلال الربع الأول والثاني من عام 2020 وتوقعت ان تتراوح معدلات البطالة بين (5.3) مليون (سيناريو منخفض) و(24.7) مليون (سيناريو مرتفع)، وستدفع هذه الجائحة الملايين من الناس إلى البطالة والعمالة الناقصة والفقر، واقترحت تدابير للاستجابة الحاسمة والمنسقة والفورية.
وتفيد التقارير إن الاغلاق العام الكبير أدى الى انخفاض عدد ساعات العمل بما يقارب (%10.7) وهو ما يمثل خسارة بنحو (305) مليون وظيفة (على اساس48 ساعة عمل/ الأسبوع)، وعلى المستوى الجغرافي كانت الأمريكيتان هما الأشد تضرراً تليها آسيا والمحيط الهادي ومن ثمً أوروبا وآسيا الوسطى، من جانب آخر، كانت انعكاسات الجائحة على القطاع غير الرسمي والذي يضم (6) من اصل (10) اشخاص عاملين قوي جداً، إذ من مجموع (2) مليار عامل يواجه (1.6) مليار تهديداً مباشراً لمصادر عيشهم، وقد انعكس ذلك الى زيادة هائلة في الفقر مما دفع برنامج الأغذية العالمية من التحذير الى ان الجائحة هي جائحة الجوع( ).
أما عن المنطقة العربية، فقد توقعت منظمة العمل أن تبلغ الخسارة (%10.7) من ساعات العمل بالمقارنة مع الربع الأخير من عام 2019 (وهو ما يمثل نحو 17 مليون فرصة عمل بدوام كامل في عام2020 ) ويتوقع أيضاً أن تتكبد العمالة غير النظامية خسائر بالغة تقدّر بنحو(89 %) من العاملين في هذا القطاع في منطقة تعاني من وجود ( (14.3مليون عاطل عن العمل قبل الجائحة وهو ما يمثل مصدر اضافي لعدم الاستقرار ومسؤولية اجتماعية واقتصادية إضافية تتحملها الدولة( ). ويؤثّر انتشار الوباء على فرص العمل في جميع القطاعات، ولا سيما قطاع الخدمات، ونظراً إلى أنّ هذا القطاع هو المصدر الرئيسي لفرص العمل في المنطقة العربية، فأي تأثيرات وخيمة تطاله ستتَرجم إلى خسائر كبيرة في الوظائف( ).
إن الضربة التي تلقتها أسواق العمل كانت لها تداعيات سلبية قوية على مختلف شرائح القوى العاملة، فمثلاً، بالنسبة للعمال المهاجرين والبالغ عددهم نحو (164) مليون عامل مهاجر في العالم يساهمون بنحو (%4.6) من مجموع القوى العاملة العالمية نصفها من النساء ويساهم هؤلاء بشكل كبير في اقتصادات البلدان المهاجرين اليها ويعملون في الخطوط الامامية مثل النقل والصحة والعلاج والزراعة والبناء وهؤلاء يتقاضون أجوراً متدنية ولا يتمتعون بحقوق عمالية، وتشير التقارير الى إن هؤلاء العمال قد تُركوا بدون عمل أو دخل أو أي نفاذ الى الخدمات الصحية مقارنة بالمواطنين المحليين بما في ذلك الحماية الاجتماعية واعانات البطالة، علاوة على ذلك هؤلاء العمال غالباً ما يكونون هم الأكثر عرضة لمخاطر الطرد من العمل، ولا يخضعون الى الإجراءات الصحية خوفاً من ترحيلهم او معاقبتهم واحتجازهم لا سيما هؤلاء الذين يعيشون في المهجر في وضع غير نظامي ومن ثمً يتم اقصاؤهم من الاستجابات السياسية الوطنية لمواجهة كوفيد -19 مثل اعانات البطالة واعانات المهجر واعانات الأجور وقد ظل الكثير منهم عالقين ويوجهون ظروف اقتصادية وصحية سيئة للغاية( ).
من جانب آخر، كان للجائحة انعكاسات وآثار سلبية قوية وطويلة الأمد على الشباب والشابات، فقد أشار مسح عالمي أجراه شركاء المبادرة العالمية بشأن العمل اللائق للشباب لتحديد الاثار المباشرة للجائحة على أوضاع الشباب بين (18-29) عاماً وشارك فيه (12000) شخص من (112) بلد، أفاد التقرير إن أثر الجائحة على الشباب عميق جداً وأشد من أثره على الفئات الأخرى، فقد دمر وظائفهم وقوض آفاق حياتهم المهنية وفقد (1) من كل (6) شباب (تقريباَ 17%) وظائفهم لا سيما الذين يعملون في وظائف الدعم المكتبي والخدمات والمبيعات، وانخفضت ساعات العمل بنحو (25%) واظهر المسح إن المهنة هي المحدد الرئيس لشدة تأثير الازمة على الشباب والشابات( ).
أما في العراق فقد قامت منظمة العمل الدولية ومؤسسة فافو النرويجية لأبحاث العمل والدراسات الاجتماعية بالتعاون مع مجموعة العمل الخاصة بالدعم المالي للمستحقين في العراق (CCI) والتي تضم المجلس الدنماركي للاجئين وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمسح سريع ضم أكثر من (3000) أسرة ونحو (1100) منشأة لمعرفة أوضاع أسواق العمل وأوضاع المنشآت الصغيرة الحجم في ظل جائحة كورونا، أظهر المسح أنه حتى قبل الوباء كانت معدلات البطالة مرتفعة بين النساء والشباب، فضلاً عن ارتفاع نسبة العاملين في القطاع غير المنظم، كما وصلت نسبة المسرًحين إلى ما يقارب (36%) في الفئة العمرية (18-24) عاماً، في حين انخفض دخل المشاركين الذين كانوا يعملون دون عقود موثقة بنسبة (40%) في الأشهر الثلاثة الأخيرة، من جانب أخر أظهر التقييم إن المنشآت الصغيرة خفضت (39%) منها ساعات عملها، وأغلقت (16%) أبوابها نهائياً( ).
ختاماً، وفي ضوء البيانات والتوقعات بشأن أسواق العمل تركت الجائحة آثاراً عميقة وقوية في العاملين بمختلف شرائحهم, وتسببت بخسائر كبيرة للوظائف, لا سيما العاملين في القطاع غير الرسمي والمهاجرين والشباب, مما تسبب في زيادة معدلات البطالة وازدياد أعداد الفقراء, وأوجد تهديداً للمكاسب المتحققة خلال السنوات السابقة، وأهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالهدف الأول والثاني والثامن والعاشر, عن الفقر والجوع والعمل اللائق ونمو الاقتصاد والحد من أوجه عدم المساواة.
أ.م.د سلطان جاسم النصراوي
كلية الإدارة والاقتصاد – قسم الاقتصاد