في خريف العام 1988 كنت أضع أولى خطواتي في الدراسة الجامعة في الجامعة المستنصرية، وكان كل شيء جديداً لم تألفه عيني، الناس، البنايات، الأساتذة، قاعات الدرس، وفي هذه الزحمة الذهنية تم تسليمنا الكتب المنهجية. كانت الأسماء غير التي ألفناها في المراحل السابقة: شرح ابن عقيل، بلاغة، صرف، …إلخ، لكن كتاباً واحداً منها جذب انتباهي بغلافه الجميل، وموضوعه الغريب, نعم إنه كتاب (المكتبة) الذي ألفه الدكتور سامي العاني رحمه الله، والدكتور عبد الوهاب العدواني، ففي هذا الكتاب تعرفنا على عشرات الكتب التي نسمع بها من قبل، فضلاً عن ذلك فقد أرشدنا لعشرات الدواوين المحققة تحقيقاً علمياً.
إن المكتبة هي عماد المجتمع في كل وقت، ولولا الكتاب لما قامت حضارات، ولا تقدمت الشعوب، والكتاب قديم قدم الحضارة ذاتها، وإن كان بصورة مغايرة لما عليه اليوم.
مما لا شك فيه أن الشعر الجاهلي حافل بكثير من الإشارات حول الكتابة وأدواتها، ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي:
وغيره كثير فليست غايتنا استقصاء تلك الشواهد.
في العصر الحديث صارت المكتبات جزءاً من كل الجامعات، والمعاهد، والمدارس، ودور العبادة، فضلا عن المكتبات الخاصة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء، بوصفها كنزاً يصعب التفريط فيه.
إن الأحداث الجسام التي شهدها العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، غيرت وجه المعمورة سلباً وإيجاباً، فالحروب، والفيضانات، والأزمات الاقتصادية، ألقت حملها على الإنسان في كل شبر من المعمورة، وهذا التأثير السلبي قيّد يد المبدع وقلمه؛ بسبب غلاء الكتب، وصعوبة تنقلها بين الدول؛ للأسباب سالفة الذكر، لكن على الوجه الآخر كانت هناك إشراقة أمل في وسط العتمة، وهذه الإشراقة تمثلت في الشبكة العنكبوتية( الأنترنت)، التي جعلت العالم غرفة صغيرة، لا قرية صغيرة كما كان يقال سابقاً.
إن هذا الاكتشاف العظيم سهل الوصول للمعلومة، فأصبحت متاحة من غير قيد أو شرط، وهنا تكمن الفائدة، أي من خلال الكتاب الإلكتروني الذي صار عونا لكل طالب علم، ولما حلت كورونا ضيفاً ثقيلاً على المعمورة أصبح لزاماً -على الفرد والمجتمع، ولا سيما المؤسسات التعليمية- أن يكون الكتاب الإلكتروني وسيلة التعلم الأولى التي لا تكلف عبئاً مالياً كبيراً.
إن الجامعة بوصفها صرحاً علمياً يلوذ به المجتمع، لا بد لها أن تستثمر جائحة كورونا؛ لإشاعة الكتاب الإلكتروني بوصفه الوسيلة الأفضل للتعلم في الوقت الحاضر، ولا سيما لطلبة الدراسات العليا، فهو- على وفق ذلك- لم يعد ترفاً لمجرد لقضاء الوقت على الإنترنت، بل صار حاجة علمية ملحة، بل وملحة جداً، ويفترض أن تنهض المؤسسات التعليمة-على اختلافها- بمهمة إنشاء مكتبات إلكترونية من القسم صعوداً للجامعة، فهذه الخطوة لا تكلف أية أعباء مالية، فضلاً عن ذلك فإنها تشكل ظاهرة حضارية تتمثل في التعامل مع العالم باللغة التي يفهمها.
إن هذه الدعوة ليست إعلان حرب على الكتاب الورقي، بقدر ما هي إيجاد وسيلة مساعدة؛ للتخفيف عن كاهل الطالب والأستاذ، فضلا عن ذلك فإن الكتاب الإلكتروني لا تصيبه عوادي الزمن التي تصيب الكتاب الورقي، مثل الرطوبة، والتلف، وأحيانا تمزيق بعض صفحاته من لدن بعض ضعاف النفوس.
إن تجربة الكتاب الإلكتروني أثبتت نجاعتها في العراق، ولا سيما في جامعة كربلاء، وعلى وجه التحديد كلية التربية للعلوم الإنسانية، ففي هذه الكلية الرائعة توجه كبير؛ لدعم الكتاب الإلكتروني، وإشاعة استخدامه من الأستاذ والطالب على حد سواء، وقد كتبت كثير من الرسائل والأطاريح بالاعتماد الكلي على الكتاب الإلكتروني، وهذا إنجاز بحد ذاته.
ختاما أتمنى أن تنجح تجربة الكتاب الإلكتروني في جامعتنا بشكل مميز، ويتم توجيه الجهود وتوحيدها؛ لإنشاء مكتبة بشكل رسمي من لدن الجامعة، وعلى مستوى الكليات؛ لكي لا تضيع الجهود الفردية التي يقوم بها بعض الأساتذة في الحصول على الكتاب الإلكتروني، وإيصاله للطلبة في مختلف الاختصاصات .
الآن صار بإمكان الباحث أن يطلع على الرسائل والأطاريح التي نوقشت في الجزائر، أو تونس، أو باكستان، وغيرها، دون أن يبذل جهداً، أو يحرك ساكناً، فالمعرفة على وفق ذلك أصبحت متاحة للجميع، وهذه المعرفة الجميع فيها سواء. إن الكتاب الإلكتروني-بوصفه كنزاً علمياً- أصبح ضرورة من ضروريات العصر، ولا عذر في جهله أو تجاهله. إن الحاجة المعرفية تلزمنا بضرورة الإفادة من هذا الاختراع العلمي، وعدم التهاون به؛ لأن المكتبة الإلكترونية صارت جزءاً من كيان الأستاذ الجامعي، بل من تكوينه المعرفي ، ولا عذر لمن لم يلحق بركب العلم، فالعالم من حولنا يركض ونحن ننتظر. إن الكتاب الإلكتروني بوصفه علماً، يلزمنا بنشره على نطاق واسع، وعدم الاكتفاء بجعله رهين المحبسين (الهارد الخارجي، والحقيبة)، فزكاة العلم نشره كما قيل، وواحدة من الأشياء التي تنفع الإنسان بعد موته علم ينتفع به.
أ.د. خميس أحمد حمادي
كلية التربية للعلوم الإنسانية/قسم اللغة العربية