عباس عبيد
كلية التربية للعلوم الإنسانية-قسم الله العربية
1- قبيل الوباء (النظام الوحيد)
هل تتذكرون الإنكار الكبير الذي كان يُواجَه به أولئك الذين حصلوا على شهاداتهم بنظام المراسلة؟ وقد كان انكاراً مشوباً بشيء من الاستخفاف أيضاً. لا أتحدث هنا عن تاريخ بعيد, بل عن بضعة أشهر فقط, تلك المتمثلة بالشهور التي شهدت التفشي الكبير والمخيف لوباء (كوفيد 19). كان يكفي أن نسمع بالأمر حتى نقتنع تماماً بأن محدثنا لا يحمل مؤهلاً علمياً يستحق الاهتمام. ليس لجهة عدم اعتراف وزارتي التربية والتعليم برصانة هكذا نمط من التعلّم, وبالشهادة التي تترتب عليه فحسب, بل لأننا – في الأساس – نجهل الكثير من أساليب التعليم الأخرى. ولم يكن الفضول ليدفعنا حتى نعرف من المقابل شيئاً عن طبيعة دراسته, أو اسم المؤسسة التي منحته الشهادة في الأقل. لقد بدا وكأنّ الأمر برمته لا يحتاج لهذا العناء. ويبدو إننا – في الأصل – لم نكن نتخيل جدوى الاعتماد على أية صيغة أخرى لا تسير وفقاً لأسلوب التعليم الاعتيادي المباشر, الذي تربينا عليه يوم كنا طلاباُ, ثم رحنا نُربّي به تلامذتنا حين أصبحنا أساتذة. كانت جولة بسيطة في أية مكتبة مثلاً يمكن لها أن توفر للباحث عشرات من المصادر المخصصة لدراسة جميع ما له صلة بالأسلوب التقليدي للتعليم (تاريخ نشأته, مسارات تطوره, فوائده وسلبياته) مهما اختلفنا في تقدير القيمة العلمية لتلك المصادر. وفي المقابل لم تتأسس مساحة تستحق الذكر لما سوى ذلك, إلا في استثناءات نادرة جداً. أذكر يوم كنت في المرحلة الابتدائية مطلع ثمانينيات القرن الماضي أنني لمحت بالمصادفة إعلاناً عن التعليم بالمراسلة في إحدى المجلات العربية القليلة المسموح بتداولها. كانت المجلة تصدر من لندن. لم أكن قادراً وقتها على استيعاب فكرة أن يكون الأستاذ في مكان جغرافي ويكون طلبته في مكان آخر. وإذ سألت عن ذلك قريباً لي يحمل مؤهلاً علمياً عالياً في تخصص نادر, وسبق له أن سافر إلى بلدان غربية عديدة, قال بثقة وحزم: (كلاوات). وهي عبارة قدحية باللهجة العراقية تعني الخداع والاحتيال. لقد تركني جواب قريبي الذي أثق بخبرته في حيرة حقيقية. ففضلاً عن إنه لم يوفر إجابة عن سؤالي, أسهم أيضاً في جعل الصورة المثالية المترسخة في متخيلنا عن أولئك الذين تحصلوا على شهاداتهم بالدراسة في الغرب غير ما كانت عليه من أهلية مطلقة لا تقبل الجدال. ومهما يكن من أمر فإن مئة عام من الاعتياد على نظام ما تجعل من الصعب تقبل التفكير بجدوى أية أساليب أخرى, أو حتى تطوير النظام القديم نفسه. هذا إذا خصصنا الكلام هنا عن عمر التعليم المصاحب لولادة أنموذج الدولة الحديثة في الكثير من البلدان العربية مطلع عشرينيات القرن الماضي (العراق وسوريا ولبنان والأردن) إذ أن لذلك النمط التعليمي الذي يتطلب تواجد المعلم والطلاب معاً في قاعة دراسية ضمن مدرسة أو جامعة ما امتداداً تاريخياً طويلاً وراسخاً. من غير أن يعني ذلك تجاهل المنجز الكبير لأساتذة مؤسسين, نجحوا في بناء نظم تعليمية كانت تُعد في وقتها نظماً حديثة بحق, وقد أسهمت نخبة من الذين تخرجوا فيها بتنمية بلدانهم بكل براعة. قبل أن يأخذ مشروع النهضة بالتراجع, وتبدأ أفكار الحداثة بالانزواء في الخمسين سنة الأخيرة, لأسباب كثيرة. ويكفي هنا استذكار مثال من الحالة العراقية, يتجسد فيما آل إليه مصير رائدين من الآباء المؤسسين للتعليم الحديث, أولهما (ساطع الحصري) في مرحلة نشأة الدولة العراقية, وثانيهما (فاضل الجمالي) في مرحلة التحديث الرائدة والجريئة المصاحبة لعهد الازدهار والنمو. ومما يؤسف له أن مصير كلّ منهما كان محزناً للغاية حقاً. أما سبب ذلك فلم يكن مستغرباً مطلقاً, وإن بدا كذلك للبعض, إذ في اللحظة التي يغيب فيها صوت العقل, وتبدأ الشعارات والعواطف البدائية بالتحرك فإن النظام التعليمي سيكون أول اسم في قائمة الضحايا. ولمن يريد تفسيراً لما سيعقب ذلك من نجاحات هنا أوهناك, في البنى التحتية من مدارس وجامعات, أو مشاريع محو الأمية, واستمرار إيفاد بعض البعثات العلمية فإن السرّ يعود في حقيقة الأمر لما تبقى من اندفاعة الموجة القوية الأولى. ولكن مثلما أن توقفها الفوري كان غير ممكن منطقياً, فإن استمرارها لفترة أطول من دون زخم جديد لم يكن أمراً واقعياً أيضاً. ومن هنا بدأ المستوى التعليمي يشهد تراجعاً بوتيرة متسارعة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. هكذا بدا الحال مع تحول العالم إلى (قرية صغيرة) وفقاً للتوصيف الذي راح يحقق تداولاً واسعاً في الأيام الأولى التي شهدت دخول المعلوماتية للفضاء العربي. كانت السنوات القليلة التي سبقت الألفية الجديدة تتيح مناخاً للحديث عن تكنولوجيا الاتصال وثقافة الميديا والعولمة, وظهرت محاولات فردية بدت جريئة قاربت بأبحاث جادة العالم الرحب لتكنولوجيا المعلوماتية. وإن بقيت قليلة للغاية, ومتوارية خلف المشهد العام. أما ما بدا وكأنه نمو في دائرة الحديث, فجاء لجهة انبهار الشرائح الشعبية بما تسمعه عن منجز غربي هائل وفرته التقانة, وأسهم في تنمية وتعزيز مناخ الحريات الفردية للإنسان الغربي, وتوفير واشاعة كمّ كبير من محتويات معلوماتية هائلة بقيت لعهود طويلة بسبب ما كانت تفرضه من تكلفة امتيازاً نخبوياً خالصاً. كل ذلك بمقابل واقع مغرق بالتأخر والرتابة وهيمنة الرقابة, حرصت فيه الأنظمة السياسية على عزل الإنسان العربي عن التحولات المفصلية التي راح العالم يشهدها بأزمان قياسية جداً.
2- وجاء الوباء (الخيار الأوحد)
إذن, ها هو العالم بأجمعه يلجأ للتقنية الذكية من أجل توظيفها في تعليم الطلبة, وأخيراً أيضاً, ها نحن نمضي معه بلا تأخر هذه المرة, وإن كنا مجبرين لا مختارين. إذ لم يعد في الإمكان متابعة التعليم بنظامنا المُفضّل وسط إجراءات حظر التجوال, ومتطلبات التباعد الاجتماعي, التي فرضها وباء (كوفيد 19). لقد كانت وسائط عالم المعلوماتية, التي هي أشبه بمحيط لا حدّ له تمثل طوق النجاة الوحيد القادر على تأمين وظيفتين مثاليتين في هذا الظرف العصيب: فهي ستؤدي أولاً دور فضاء التعليم الجديد والآمن, وتيسر لنا اكمال العام الدراسي بعيداً عن هجمة مروعة لفايروس يرفض أي شكل من أشكال التراجع حتى الآن. وهي ثانياً الأداة ذات الإمكانات المتعددة التي توفر لطرفي التعليم ما ليس في وسع الصيغة الكلاسيكية أن تقدمه.
وإذا كانت غالبية نظم التعليم في العالم المتقدم مهيأة في الأساس للاعتماد الكُلّي على النظام الإلكتروني, لأنها كان تستند إليه, وتوظفه مع التعليم المباشر منذ أكثر من عقدين, فليس غير التفشي المباغت لوباء كورونا هو من أقنع المؤسسات العربية بتقبل هذا الحل. لقد كانت اللحظة بالنسبة لنا لحظة تحول طارئ وليس لحظة تأسيس مخطط لبلوغها مسبقاً. هذا هو المشهد العام, مع استثناءات عربية قليلة يعرفها المتتبع. وبهذا نكون قد تعاملنا مع ملايين من طلاب العلم في العالم العربي من دون خبرة كافية نحسن معها توظيف وسائط عالم المعلوماتية. والحق إن السؤال الأكثر أهمية هنا, والذي يفترض أن يسبق أي سؤال آخر هو باختصار: هل إن ما قدمناه من محتوى تعليمي في العام الدراسي الذي شهد انتشار فايروس كورونا كان تعليماً إلكترونياً حقاً؟ إن كل ما يُكتب ويُقال ويُعاد في الأوساط الرسمية وغير الرسمية يصفه بالتعليم الإلكتروني بلا أدنى تردد. لكن الجواب الصحيح في تصوري إنه – في الغالب – لم يكن كذلك. قد يبدو هذا الرأي غير مفهوم لكثيرين, وربما صادماً أيضاً. لكن السبب الذي يدفعني لتبنيه واضح جداً بالنسبة لي, مثلما هو سهل أيضاً لمن له إلمام يسير بالموضوع. إن كل محتوى تعليمي قدمه معلم أو مدرّس أو أستاذ جامعي عبر الإنترنت ولم يقم بتوظيف واستثمار الوسائط المتعددة (Multi media) للتواصل مع طلبته فهو في حقيقة الأمر ليس تعليماً إلكترونياً, حتى وإن طاب لبعضهم أن يطلقوا على عملهم هذا التوصيف. فالتعليم الإلكتروني (E – learning) إنما يستند في الأساس على حزمة من الامكانات التي توفرها التقانة الذكية, مثل السهولة الفائقة في ايصال المحتوى التعليمي بصيغ متنوعة, مكتوباً ومسموعاً ومرئياً, ومثل استثمار وتوظيف الصور الثابتة والمتحركة ذات الصلة بالموضوع المتناول. فضلاً عن إثراء المحتوى بالروابط التي ستنقل الطالب إلى روابط أخرى متشعبة في عالم الإنترنت, وتوفير العديد من الفهارس والمصادر الإلكترونية. والأكثر أهمية يتمثل في تيسير التواصل الحي المباشر مع الطلبة المتعلمين, وفقاً لما يتم الاصطلاح عليه بين أوساط الدارسين بالتعليم المتزامن (Synchronous learning) من أجل اشاعة روح التفاعل لدى المتعلمين, ومنحهم الاحساس الحيّ بالواقع. صحيح إنه سيبقى في نهاية المطاف واقعاً غير موجود, لأنه ببساطة غير مادي (افتراضي) غير إنه سيخفف كثيراً من برودة الأداة ورتابتها.
ليس الذين يعرفون ما يعنيه هرم (ماسلو) هم الوحيدون الذين يقدمون سلامة حياة الطلبة على ذهابهم للتعلم في المدارس والجامعات في ظل الوباء. من سيشكك بذلك أصلاً؟ لكن الفرادة كانت ستصبح ممكنة, لو شرع الجميع بتعليم نفسه بنفسه – أتحدث هنا عن شريحة المشتغلين بالتعليم – في الأقل للتعرف على المفاهيم الأساسية للتعليم الإلكتروني, وما أسهل ذلك لمن يريد. فقد كان الوقت متاحاً في ظل الفسحة الكبيرة التي توفرت مع اجراءات حظر التجوال, مثلما إن محرك البحث غوغل في متناول اليد على الدوام. إن ساعة أو ساعتين يقضيهما الأستاذ في البحث والتعلم كافية جداً لكي تغنيه عن انتظار شروح وايضاحات تأتيه من فوق, وربما لن تأتيه أصلاً. لكن كم هي نسبة الذين حرصوا على فعل ذلك؟ وبالرغم مما تمت الإشارة إليه فقد كانت هناك نسبة طيبة من أساتذة عملوا في ظروف صعبة, وفي ظل تجربة جديدة, وكانوا يُعدّون لطلبتهم محاضرات علمية جيدة, وربما ممتازة أيضاً, ولكن مع ذلك كلّه, لا يمكن تسمية ما قدموه بالتعليم الإلكتروني. ليس تهويناً من جهدهم النافع للطلبة, والمؤثر فيهم ايجابياً دون شك, لكن لأن التعليم الإلكتروني لا يحقق معنى وجوده بمجرد إرسال معلومة أو خبرة ما بوساطة جهاز كمبيوتر أو جهاز لوحي أو هاتف ذكي من طرف مُرسِل (المعلم) إلى طرف مُرسَل إليه (الطلاب). إن هذا الفعل في الحقيقة هو صورة من صور التعليم بالمراسلة الذي لم نكن نتفاعل معه مثلما تقدم في مفتتح هذه الوقفة, والذي يُعدّ بدوره شكلاً من أشكال التعليم عن بعد (Distance learning) يلجأ إليه من لم تسعفه الظروف لإتمام تعليمه بالطريقة الصفية الاعتيادية, بسبب كبر السن أو ظروف العمل, أو للرغبة باكتساب مؤهلات إضافية جديدة, أو لأي سبب آخر. لا يهم, ما دمنا نفكر بسلامة الطلبة أولاً, وبالأمن الصحي للمجتمع بأكمله في ظل ظروف طارئة تهدد سلامة الجميع, ولا أحد يطمع فيها بالوصول إلى مستوى مثالي. كما إنه ليس في اعتماد هذه الآلية عيب إن تم وفقاً لمعايير واقعية. إن مصدر خشيتنا في الحقيقة هو من الوعي المُلتبس, من الارتجال والتسرع, ومن غياب المناخ الملائم لتحديد المفاهيم, وطرح البدائل, وجعلها موضوعاً لنقاش طويل, من أجل فهمها على حقيقتها. وستتضح لنا مبررات تلك الخشية حين نتذكر مثلاً أداء المراقبة (الاشراف) في امتحانات هذا العام, وقد كانت تحتاج مزيداً من الاهتمام (تناولنا ذلك بالتفصيل في مقال سابق), وحين نعرف أيضاً أن نظام التعليم بالمراسلة نفسه لا يقيم امتحاناً عن بعد. بل يشترط في الامتحان النهائي الذي يجريه أن يتم وفقاً للأسلوب المتعارف عليه, أي أن يؤدي الطلبة الامتحان في إحدى قاعات المؤسسة التعليمية, وتحت إشراف أساتذة مراقبين.
هل يحق لنا أن نسأل أولئك المندفعين بحماس زائد سؤالاً واحداً: ما هو الجديد الذي تم تقديمه لتصفوا عملكم بالتعليم الإلكتروني أكثر من تقديم قهوة تم الانتهاء من صنعها قبل ما يزيد على مئة عام في قدح جديد؟ هل الفرق يكمن فقط في أن المحتوى التعليمي (كتب منهجية, محاضرات, أشرطة صوتية, فيديوهات) الذي كان يصل إلى الطالب بيد ساعي البريد, ثم صار يصل إليه في بريده الإلكتروني لاحقاً, أصبح يصل إليه اليوم بوساطة وسائل التواصل الاجتماعي كالتلغرام أو الفايبر, أو عن طريق منصات وقنوات أخرى مثل غوغل كلاس روم وإدمودو ومودل؟ لا بد من أن ثمة خطأ ما, أو إننا لفرط اعتيادنا على تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية لم تعد تعني لنا الفوارق والحدود بين المفاهيم شيئاً مهماً. لقد وقفتُ عن قرب بحكم عملي, ومتابعة محاضرات أولادي وأبناء بعض الأقارب, ممن يطلبون مني المساعدة في فهم دروسهم أحياناً, وفيهم طلبة في المرحلتين الإعدادية والجامعية, أقول وقفت على نماذج كثيرة لمحاضرات قُدمت على أنها تعليم إلكتروني. ولقد كنت أجد أساتذة يكتفون بأخذ صور قليلة لخمس أو ست صفحات من الكتاب المنهجي المقرر ويرسلونها لطلبتهم, مقدمين ذلك على أنه محاضرة علمية إلكترونية. وغالباً ما كنت أجد عند آخرين كلاماً تبسيطياً لا تعود معه لفكرة الموضوع المتناول أية أهمية, وهو نهج غير مبرر حتى بمقاييس نزعة المسامحة و(المساعدة) التي سادت اجواء التعليم في أشهر الوباء. فضلاً عن محتويات تعليمية تم نسخها من الانترنت, وقُدمت من دون إشارة لمصدرها الحقيقي. ومع ذلك كله, يطيب لبعضهم التأكيد بحماس مفرط أنه قد أدى التعليم الإلكتروني بنجاح باهر. ويبدو إنه من الطبيعي بالنسبة لهم أن لا يجدوا حاجة لتقديم أدلة على صحة ما يدعونه, ما داموا قد تأكدوا من أن عملهم لن يراجعه أو يقيمه أحد. وربما حسبوا – مثل حال كثير من الطلبة – أن الأمر برمته عبارة عن سنة عبور مُقّنعة. حسناً, دعكم من ذلك كله, ولنرقب نمطاً آخر من الآراء, لا يتم تداوله في العلن حتى الآن, لكنه يحضر بقوة على لسان أُسر الطلبة, والمعنيين بالموضوع. ولا بد من أنكم سمعتم من بعض الأطراف همساً مشككاً, راح يعلو شيئاً فشيئاً حتى صار تذمراً من طبيعة الأداء التعليمي الذي رافق شهور التعليم عن بعد. كانت النغمة السائدة – بالأخص فيما يتصل بالمرحلتين الابتدائية والثانوية – هي الآتي: (إذا كان الطالب وهو في قاعة الدرس غير قادر على استيعاب المواد الدراسية مع أن المعلم واقف فوق رأسه فكيف سيفهم منه وهو مستريح في بيته؟). ترى هل لهؤلاء بعض الحق فيما طرحوه؟ وهل الأولى أن نصدقهم أم نصدق أصحاب الادعاء الأول؟ أم لا نصدق الاثنين معاً؟
مهما يكن من أمر, فإن موضوعاً حيوياً ومصيرياً كالتعليم لا يؤخذ بهذه الطريقة التبسيطية: (قال وقلت, نعم ولا, ونجحنا ولم ننجح) إن الحاجة ملحة – في اعتقادنا – لتأسيس مبادرة فورية تجعل من المراجعة الحقيقية هدفها الأول, ومن ثم تواصل السعي نحو انجاز تقييم علمي حقيقي يستند لآلية نستطيع أن نقيس في ضوئها نتائج التجربة. ما هي تلك الآلية؟ كيف سيكون عملها؟ من الذي سيضعها؟ ليست الإجابة عن هذه الأسئلة بالأمر الصعب, في حال توفر إرادة حقيقية مخلصة, وتمكين ذوي الخبرة والكفاءة من المشاركة. يمكن مثلاً أن تكون البداية النموذجية مخصصة لجمع البيانات عن جميع ما يتصل بالتجربة, باستبيانات علمية. وأنا متأكد من أن لدى الكثير من الأساتذة ملاحظات وآراء نافعة, ولا أعرف سبب ترددهم في تبيانها حتى الآن. وهنا يتوجب علينا أن لا ننسى استطلاع رأي الطلبة أيضاً, فهم المعنيون بالمحتوى التعليمي أولاً وأخيراً, لأنه موجه لهم بالأساس. ويمكن أن يتم ذلك عبر آلية تصويت, لن تكلّفنا شيئاً يُذكر, فخطوط التواصل مع الطلبة لا تزال موجودة. إن جميع المؤسسات التعليمية في دول العالم كلها لديها ضوابط محددة وصارمة يتم الاستناد إليها عند منح الدرجات المستحقة لطلابها كما هو معلوم للجميع. أتحدث هنا عن ميزان ما, عن مقياس جودة الأداء, أو أداة التقييم (Rubric) – سمّه ما شئت – . ونحن نحتاج ذلك أيضاً ومن دون شك من أجل تقييم المناهج والآليات وأداء المؤسسات وعمل أفرادها تقييماً موضوعياً, في الأقل لكي لا نساوي من ثابر وأبدع في عمله مع من لم يرتفع للحد الأدنى للمستوى المقبول. أما لو أهملنا الأمر فسيغدو أي اجتهاد بعدها فعلاً كيفياً محضاً. إن أداة التقييم الصحيحة وحدها التي ستجعل من السهل استيعاب وفهم الجهد التربوي والتعليمي, وفوق هذا قيمته وجدواه أيضاّ. فأمام المنطق العلمي لن يعود للأهواء والآراء المرتجلة أي تأثير. وساعتها فقط لن تختلط المفاهيم لدى أحد.
3- ما بعد الوباء (التعليم المدمج وضرورة التحديث)
إن حتمية ارتباط التعليم بالمعلوماتية قضية لم تعد تتوقف على قرار وزير أو رئيس. ولن يكون معها أي فرد أو مؤسسة أو دولة في وارد القبول أو الرفض, وإنما أمام فرصة أخيرة لتعويض خسائر الزمن الثمين الذي تمت اضاعته بالتنكر لأمر صار لازماُ وبديهياً منذ سنين. وهذا يشمل بطبيعة الحال الجانب التعليمي كما يشمل غيره من الميادين الأخرى. فتكنولوجيا الاتصال كانت منذ نشأتها, وستظل كذلك أيضاً تحدياً إشكالياً للتاريخ والاقتصاد والسياسة ونظام المعتقدات والتقاليد الاجتماعية, وللثقافة عموماً, أو الأصح لموقفنا من ذلك كله. ويستحيل على قرار ارتجالي أو خطاب عاطفي التأسيس لمقاربات علمية تعود بالنفع على عقل الإنسان العربي.
إن من لم ينجح في التعليم الصفي الاعتيادي لن ينجح في التعليم الإلكتروني, وعكس ذلك صحيح أيضاّ. فالأكثر ربحاً هم الأكثر اجتهاداً. وكلما كان المعنيون بالتعليم يحملون رغبة حقيقية بالتحديث زاد احتمال وصولهم للهدف الذي ينشدون. ومن أجل مزيد من البراغماتية, أو لنقل التفاؤل لنؤمن أولاً بأن الفعل الذي يسبق التخطيط ليس سيئاً على الدوام إن نحن تمكنا بالعمل المتواصل من تكييفه لصالحنا بشكل سريع ومرن. إذن لتكن هذه هي الخطوة الأولى في التحديث المنشود دائماً وأبداً. أي أن نحرص كلّ الحرص على اتخاذ (الحل الأوحد) فرصة مثالية, وسبيلاً لتطوير (نظامنا الوحيد) وجعله متعدداً. وفي اللحظة الأولى التي سوف نأمن فيها من شر فايروس كورونا ينبغي الاعتماد في جميع مراحل الدراسة على نظام التعليم المدمج (Blended learning). في جميع التخصصات العلمية والإنسانية, وللمراحل الدراسية كافة. ولن يكون صعباً, ولا مستغرباً أن يتعامل طالب في المرحلة الثالثة من الدراسة الابتدائية مع جهاز لوحي ذكي, ويعرف كيف يستفيد منه, فحتى الأطفال في عمر ما قبل المدرسة صاروا يجيدون ذلك. إن التعليم المدمج يجمع الخواص الايجابية للأسلوبين المتقدمين معاً, فيقوم الصف الافتراضي المستند للوسائط المتعددة بإثراء عمل الأستاذ والطلبة في الصف الحقيقي الواقعي, ويمنحه مرونة وغنى. وهذا هو بالضبط ما حرصت على العمل به نظم التعليم في العالم المتقدم منذ سنوات. قد يحسب بعضهم أن التعليم الإلكتروني هو البديل الناجح للتعليم الصفي المباشر, وإنه الوصفة المثالية للنهوض بمعاهدنا التعلمية, ولكن ذلك غير صحيح مطلقاً. ببساطة, لا حلول سحرية تؤمن بها أية نظرية من نظريات التربية والتعليم. وقد سبق أن أوضحنا في وقفة سابقة أن الوسيط الذكي مع كل ما يوفره من امكانات لا يمثل الحكاية كلها.
إن الهدف الحقيقي الذي تريد هذه السطور أن تبلغه هو أن تفكر بصوت عالٍ في سياق دعوة للنقد والمراجعة, ولا بأس أيضاً في أن تحذّر وتبشّر في أثناء ذلك. تحذّر من استسهال الخلط بين المفاهيم, وترك التجارب لتمرّ مرور الكرام من دون مراجعة. وتبشّر باقتراح حلول واقعية لا غنى لنا عنها. حلول تمثل أبجديات فن إدارة المؤسسات والمشاريع, سمع بها أغلبنا بالتأكيد, لكني أتحدث عن المعرفة التخصصية الراسخة, التي تعيد تذكير نفسها بالأهداف على الدوام حتى لا تغفل عنها: (مراجعة التجربة, أداة التقييم, التعليم المزدوج, ضرورة التحديث). وكل عنوان من هذه العناوين يمثل وسيلة من وسائل الوصول للهدف الكبير(نجاح التعليم). لكن ما لم نجعل لكل واحد منها أهمية الهدف الكبير نفسه, من حيث التخطيط واختيار فريق عمل كفوء فلن نفلح في تطويع أي منها لبلوغ الغاية النهائية المنشودة. ومن قديم قرر الحكماء أن الأهداف التي نحلم بالوصول إليها تتوقف على طبيعة الوسائل التي نعتمد عليها.
(إننا, علينا, قلنا, أكّدنا…) من يا تُرى هي الجهة المعنية بخطاب ال (نا) التي تتكرر بلا ملل كلما أراد واحد منا أن ينتقد أو يفكر أو يقترح؟ أهي لجان الخبراء والمستشارين وهيئات الرأي في وزارتي التربية والتعليم العالي, والتي يُفترض أن تكون أول المبادرين للاهتمام بالمراجعة والتقييم؟ أم الجهاز الإداري والكوادر التدريسية في مؤسساتنا التربوية؟ أم الآباء والأمهات الحريصون على مستقبل أبنائهم؟ الحق إن تقديم شيء مفيد للملايين من أبنائنا الطلبة لن يصبح أمراً ممكناً ما لم تحسن جميع الأطراف المعنية المتقدمة الاصغاء لأولئك الذين يمتلكون العلم والخبرة, والمقدرة الحقيقية على قراءة المواقف, وصياغة الأفكار. إن جودة التعليم تحتاج إلى تدابير اجرائية, تبدأ بالتخطيط الاستراتيجي المستجيب لروح العصر, وإلى إدارة متمرسة بالخبرة تجعل الخطط واقعاً متجسداً بكل أهلية. إدارة لا تدير ظهرها للمشكلة أبداً, بل تستشعرها, وتواجها باقتدار. وما دمنا لم نبادر إلى فتح الشبابيك إلا على أصوت دويّ هائل لحدث كارثي هدد سلامة العالم بأسره فهذا يعني أن ثمة خللاً يتعين علينا جميعاً العمل بجد ومثابرة من أجل اصلاحه. خلل كبير, وكبير جداً أيضاً. فما الذي يضمن لنا أن الهواتف الذكية للأساتذة والطلبة لن تتنكر لدورها الجديد وتعود لأداء وظيفتها القديمة فقط, مع أول بادرة بشارة بتراجع الوباء؟ فلقد كانت الهواتف ذاتها في جيوبنا قبل تفشي فايروس كورونا بسنوات, ومع ذلك لم يفكر أحد باستخدامها لإرسال محتوى تعليمي ما ! باختصار, تُرك ل(مكاتب الاستنساخ) الملحقة بكل كلية أن تقوم بالمهمة. ترى كم كنا نخسر كل يوم, وعلى مدى سنوات طويلة من الأموال وأطنان الورق؟ في حين كان بإمكان أي أستاذ أن يوفر كل ذلك, ويسهل المهمة للطلبة بضغطة زر مجانية من هاتفه, لا تستغرق منه سوى ثانيتين, لا أكثر!
وختاماّ لا أدري بالضبط لم قمتُ بتوفير الحديث عن أولئك الأساتذة الملهمين حتى النهاية, فمن هو الذي سوف يجازف من غير المختصين – وربما منهم أيضاً – بقراءة مقال طويل بأكثر من ثلاثة آلاف ومئتين وسبعين كلمة وفي موضوع عن اشكاليات التعليم, فضلاً عن أن يصل لخاتمته؟ أتحدث هنا عن عدد قليل ونادر من المعلمين الرائعين, ممن عملوا بكل ما يقدرون عليه كي يفهموا منذ اللحظات الأولى للإعلان عن اعتماد التعليم الإلكتروني تفاصيل مهمتهم الجديدة بزمن قياسي وصدق مع النفس. وحين بدأوا بعملهم أثبتوا ببراعة مطلقة إن التعليم نشاط خلاق أبعد ما يكون عن المقولات الجاهزة, وإنه ذلك المحتوى العلمي الساحر الذي غايته أن يشرع أمام الطلبة أفقاً جميلاً للخيال, ووعداً يحفز فيهم روح المشاركة, والرغبة الكبيرة بفهم الذات واكتشاف العالم. نعم, قد لا نتمكن من معرفة اسمائهم, ربما لأنهم يجيدون العمل بصمت ولا يحبون الصخب والادعاء. مع أني آمل حقاً بأن يعرفهم الجميع. هل خصصت لهم الخاتمة لأني أدرك أن منطقهم ورهانهم على العلم والصدق والأمانة واحترام الذات هو الذي سينتصر في النهاية؟ أتمنى بصدق أن تصادفهم هذه الكلمات, وأن تعني لهم شيئاً أيضاً, فقد سعيت لجعلها تليق بهم. وهل هناك أغلى من أن تعني كلماتنا شيئاً مهماً لمعلم نبيل, حتى وإن كنا لا نعرف اسم ذلك المعلم؟