د. مسلم مالك الأسدي
كلية العلوم الاسلامية/ قسم اللغة العربية
يروى قديماً: أن ميكائيل أنجلو صور يوماً في لوحته المسماة الجحيم ((أحد الكرادلة الذين كان يكرههم )) فاحتج الناس لدى البابا على هذا العمل، ولم يملك البابا سوى أن يجيب على هذا الاحتجاج بقوله: ((إنني استطيع كل شيء في مملكة السماء، وأما في مملكة الجحيم فليس لي _ مع الاسف – أي سلطان)), ولم تكن هذه الاجابة سوى اعتراف من جانب البابا بعجزه عن السيطرة على العبقرية الفنية، وهذا الأمر كنا ومازلنا نحاول مجتهدين تحقيقه, بدأنا بامرئ القيس والنابغة, وانتهينا بالطائيين الكبير والصغير, فأشعلنا فتيل الحرب عليهما بين واصف صداح لجمال القول ومتقول كاره متصيد لهنات في مباني الابداع, لكنهما لم ينظرا الى ان المبدع يقول ما يمخر عباب قريحته وما يحرك تباريح عقله وما يمر على صفحة وجدانه فيقول كثيرا ما لا يشارك ، يقول ما يريد أنى شاء ومتى شاء وكيفما شاء لا تحده حدود ولا تقفل في وجهه السبل ولا يقنن عمله بالضوابط والقيود ( عمود الشعر وغيرها ) ؛لأنه خُلق ثائرا متمردا على ضوابط القول معتمدا على شيطان القول وغمرة الابداع وساعة الصفاء والانمحاق في سرمدية لا حدود لها ، فيخرج الدرر من اصدافها وينشرها للعلن فيتلقفها الناس سراعا توافق اذواق بعضهم وتمج في افواه اخر, فيقول مقننا معتمدا في تفسير وتحليل وبيان سبب الرداءة, كما اعتقد معتمدا على قوالب القول التي وضعت لإبداع سابق لا لزمن القول او يطبق عليها منهجا وضع للغة غير لغة العرب ,ولإبداع مختلف ولبيئة اخرى فيظهر العجز والضعف الذي ينعكس في النهاية على النص الابداعي فيظلم ويحط من قيمته ,وتساق نحوه التهم بالقصور ويُتهم بعدها كثيرا مرة بالسرقة واخرى بالحكمة التي اصبحت عيبا عند بعضهم ,وثالثة بالتدليس واخفاء شعر الاقدمين؛ لكي يسرق معانيهم الابكار والفاظهم الرنانة, وكل هذا حمله ابو تمام على كاهله قديما وعند بعض المحدثين لا لشيء سوى لأنه خرج عن منظور زمانه وقاد ثورة التجديد وسار بالشعر الى أفق جديد والى مفاوز غير مكتشفة وسبل غير معبده, فنحت في الصخر فأبدع ولكن إبداعه تلقف من قبل انصار القدم وطالبي السبق وعاشقي التراث, فلم ينصفوه البته ولم يقفوا معه الا ما ندر بل حتى من وقف معه حاول ان يبرر له القول فأراد الاحسان فأساء من حيث لا يحتسب ، لأنه قرن شعره بالهياكل القديمة ولم يخلق له عمودا جديدا خاصا بابي تمام وحده وبمن سيسلك طريقه الذي عبد له.
في الختام اقول ربما كانت وفاته وهو بعمر الزهور قد افادت شعره اكثر مما اضرت فثورة الشباب لديه, وقد تكون هي التي خلقت لنا كيانا لن يتكرر وشعرا لم نجد له مثيلا وبعض الهناة التي لم تزال، فبقي كما قيل وسيق للناس كما انشد ووصلنا دون تلاعب فأصبح علامة فارقة في صفحة الشعر العربي ؛ليستمر في غياهب الجب ومتاهات النقد ، نعم كان تفسير الابيات الرديئة في شعره وذلك الخطأ الكبير الذي اقام الدنيا واقعدها عليه ,لاشك ان أبا تمام وقع فيها ليجسد روحه المتوثبة التي لا ترضى بمقاييس هؤلاء النقاد ، فخرج عليها ، وكسر هياكلها البالية مندفعا بروح الشباب وعقله اليافع المتوثب للعلياء الطامح بكسر الجمود, الذي كسى الشعر بالصدأ واصابه بالخمول فحرك الطائي المنظومة الابداعية برمتها بعد ان بعث نسماته الى أشرعتها المتوقفة فسارت وابدعت وخلقت ايقونة اخرى سارت على ركب الطائي, ولكنها فاقته في القول والفعل ورد الفعل الذي جلبته لنفسها بسبب العنفوان والانفة, نعم إنها صحيفة المتنبي شاغل الزمان.