مسارات الدال وبعثرة الدلالة في أدب السيرة الذاتية “الذاكرة الموشومة” لـ عبد الكبير الخطيبي انموذجاً دراسة تفكيكية

رسالة ماجستير

اسم الباحث : حيدر عبد الرسول جبار اسماعيل

اسم المشرف : سعيد عدنان محمد

الكلمات المفتاحية :

الكلية : كلية التربية للعلوم الانسانية

الاختصاص : اللغة العربية/ادب

سنة نشر البحث : 2022

تحميل الملف : اضغط هنا لتحميل البحث

ذات يوم وبينما كنتُ أجيل النظر في رفوف إحدى متاجر الكتب تعثّرت عيناي بعنوان جاذب.. (الذاكرة الموشومة)، تساءلتُ قبل توريقه كيف تكون الذاكرة – وهي كيان غير ملموس – منقوشة بالوشم؟ لمّا انتزعت الكتاب الصغير من بين ما يضغطه من مجلدات كبيرة ورخيصة الثمن، قلتُ ربما هذا عنوان برّاق اتخذه الكاتب من أجل التسويق. فكثيرون هم الذين تغويهم العناوين التي تولِّد الدهشة بالمفارقة أو الانزياح وغير ذلك من الفنون. بضعُ كلمات على الغلاف تمررُ التباساً آخر، أسم الكاتب عربي “عبد الكبير الخطيبي” وفي الأسفل اسم المترجم! الصفحات الأولى تشي بأن النص لا يمكن أن يُقرأ بشكل بصري عابر، عبارات تحثّ على التمعّن. بعد أن قرأته وقرأته لمرّات، تكون انطباع جازم أن (الذاكرة الموشومة) هي كتابة مغايرة لا تشبه ما نقرأه من أدب، طريقة رصف الكلمات تحثُّ على الغوص في ما وراء النص، كلما أحاول القبض على المعنى ينفلت، وعلى الرغم من ذلك فإن محاولات فهم النص لا تبعث على الضجر كما تفعل أحياناً الكتب الفلسفية البحتة، العبارات الأدبية تطرّز الصفحات وتمدّ القارئ بطاقة الاستمرار في مطاردة المعنى الذي لا يسلّم نفسه للتلقي بيسر، بل يستدرجه بغواية الفنون الأدبية، ويخلق نوعاً من التحدي بين توقعات القارئ وإجهاضها المستمر، فإذا كانت فنون الكتابة من أدب وسواه خمشاً لأديم اللغة، فما يفعله عبد الكبير هو حرثٌ له من اسمه نصيب.
وعندما وُفِّقتُ لإكمال دراستي الجامعية في مرحلة الماجستير، راودني التحدي في أن ألج غمار هذا الكاتب. فما كان منّي إلا أن أهرع إلى أحد سدنة الأدب وحرّاس أسراره، إنه الأستاذ الدكتور سعيد عدنان لأسأله عن إمكانية دراسة سيرة الخطيبي، وقد أجابني الدكتور على الفور بـ “نعم، سيرة الخطيبي تصلحُ لذلك”. وقد قبل بعد إقرار العنوان أن يكون مشرفاً على هذه المحاولة التي أرجو أن تنال استحسان أهل الأدب.
هنا بدأ التحدي يأخذ طابعاً جدِّياً أكثر، (الذاكرة الموشومة) نصٌّ زئبقيٌّ متحرّك يحتاج إلى أداة متحركة تلاحقه على أمل الإمساك ببعض ما يمكن إمساكه. وهكذا بدأ المشوار الذي يشبه مطاردة شبح الكتابة ومحاولة اصطياد ذلك الشبح بشبكة هلامية لا تقل مرونة وانسيابية عمّا تحاول صيده، إنها “التفكيكية” التي رست عندها القناعات في مواجهة النص وفق مقولة ((ما لا يدرك كُلّهُ لا يترك جُلّهُ)).
وقد واجه الباحث عقبات عدة منذ بداية العمل البحثي، فالتمهيد الذي يفترض أن يكون عن حياة كاتب (الذاكرة الموشومة)، لم يكن بالسهولة المتوقعة من الكتابة عن حياة صاحب العمل المدروس، إذ إن المصادر الورقية التي تحدثت عن حياة المؤلف قليلة أولاً بسبب اهتمام الخطيبي بالأفكار دون الأخبار وهذه السمة كما لو أنها عدوى نقلها لمن كتب عنه، وهذا ما سيتبين حتى في كتابة “سيرته الذاتية”. ثانياً أن بعض تلك المصادر حديثة لم تصل بعد إلى متناول القارئ خارج المغرب العربي. لذا كانت الاستعانة بالتواصل مع أسرة الخطيبي خصوصاً وأن فيها أكاديميين تبّنوا مشروع إحياء تراث فقيدهم. وقد زودوا الباحثَ بمجموعة من الكتب والمقالات التي تتوخى الدقة في النقل.
عقبة أخرى لابد من ذكرها تكرر حصولها أثناء الكتابة وهي أبرز المشكلات التي واجهها البحث، تتمثل بتعددية النص وطريقة سبكه بشكل يصعّب على الباحث مهمة العزل بين المباحث. فعلى الرغم من أن الرسالة – التي اعتُمِدَتْ فيها أهم مفاهيم التفكيكية – مكوّنة من تمهيد وثلاثة فصول، كل فصل منها مقسمٌ على ثلاثة مباحث. فضلاً عن ذلك فإن محاولة تحليل نصوص الخطيبي لم تكن بالعملية اليسيرة، فجملة الخطيبي تحمل مقاومة غير اعتيادية تمنع الدارس من الانفراد بها وإشباعها دون أن تجره مآلات النص إلى دلالات ومعاني هي بالأصل قد خُصِصَ لها مبحث آخر، وهذه الإشكالية يؤكدها أغلب دارسي الخطيبي كما سيتبين في متن البحث. المشكلة التي يواجهها دارس هذا النوع من النصوص هو هذا التداخل الفني والدلالي في الوقت نفسه، ففي الجملة الواحدة يتداخل ما هو شعري بما هو نقدي، ما هو فلسفي بما هو سيَري، الحدود بين السرد والنثر والشعر تكاد تنعدم، نص بلا تسلسل زمني! شعر مفارق للأساليب الشعرية المعهودة، نثر يحكي سيرة حياة، النص الفرنسي الذي كُتبت به (الذاكرة الموشومة) مخترق بأنساق عربية هي الأخرى تُزجُّ بطريقة منزاحة عن دلالتها عمّا وردت في التراث والأدبيات العربية، وهكذا كلما يحاول قارئ الخطيبي أن ينفخ الدلالة في غشاء تنفجر فقاعة المعنى ويتشتت الفهم أو يُرجَأ على طريقة “النظرية التفكيكية”. ولذا كان من الأَوْلى لتحليل هكذا نصوص أن تدرس وفقاً لاستراتيجيات كان لها دور سابق على طريقة الخطيبي باكتشاف هذا النوع من الكتابة. فبالتحري والاستقصاء وُجد أن الخطيبي قد نهل من فلسفات ومفاهيم أبرزها “التفكيكية” وعلى الرغم من أنها نظرية فلسفية نقدية بالأساس إلا أن صاحب (الذاكرة الموشومة) طوّع مفهومها للنص وحوره ليخدم طريقته في الكتابة سواء أكانت كتابة أدبية أم غير ذلك. وما يؤكد تأثره بالتفكيكية اعترافه أحياناً، فضلاً عما دلّت عليه الدراسات من مكامن التأثر. يضاف إلى ذلك المزامنة التي تشير إلى أن الخطيبي بدأ كتابة ذاكرته الموشومة في عام 1968م، أي بعد عام أو أقل من انتشار الأفكار حول “التفكيكية” التي اتضحت معالمها في ثلاثة كتب أصدرها دريدا دفعة واحدة عام 1967م. والكتب هي ((“الكتابة والاختلاف”، “في علم الكتابة”، “الصوت والظاهرة”)). لكن تأثّر الخطيبي لا يعني أنه تابع أو صدى لتلك النظرية؛ بل على العكس أنه يحظى بقيمة فريدة، نظراً لبلورته تلك المفاهيم التفكيكية وتسخيرها إجرائياً في الأدب، إذ تحول بمفاهيمها من ميدان التنظير النقدي أو الفلسفي إلى إنتاج النص وفق معايير الكتابة المنتفضة على النسق القار بما يتضمنه من تكريس للثنائيات الميتافيزيقية. وهذا ما أدى إلى أن يقرّ له بالبراعة حتى روّاد ما يسمى بـ “الكتابة الجديدة” وفق “النظرية التفكيكية” من أمثال جاك دريدا ورولان بارت، وآخرين. وهذا ما سيتم التعرف عليه أكثر خلال فصول الرسالة بشكل تفصيلي.
تطرق التمهيد إلى انتماء الخطيبي وتعددية الكتابة لديه ولماذا كتب الخطيبي “سيرته” في باكورة أعماله وما هي أوجه التشابه والاختلاف بين مجموع السير و(الذاكرة الموشومة). الفصل الأول الذي جاء بعنوان “الفكر الأحادي وانكسار التوقّع” قُسّمت مباحثه الثلاثة على التجريب وعلاقة الذاكرة الموشومة بموجة التجريب في الرواية المغربية، والشعرية وكيفية ممارستها منذ الاستهلال أو عتبات النص في الذاكرة الموشومة، والكتابة وفقاً لمنظورها الجديد وما تثيره من إشكاليات التواصل. أما الفصل الثاني فقد تناول “بنية الدال وتشتّت الدلالة” ومباحثه يتناول الأول منها الدال وإنشاء الأثر والتداخل الذي تشهده (الذاكرة الموشومة) بين الجسد والنص، أما المبحث الثاني بعثرة الدلالة فقد تطرق إلى ما يثيره هذا النوع من الكتابة من عسر للقراءة، فضلاً عن استراتيجية المجابهة بين تراث الكاتب ولغة الكتابة. ثم في المبحث الثالث تم تسليط الضوء على أحد مفاهيم التفكيكية الذي يظهر بشكل جليّ في سيرة الخطيبي، وهو مفهوم الإلحاق، وقد تم الكشف عن هذا المفهوم في التراث العربي وتجليه في الأدب العربي وفق قواعد لغة الضاد في النحو العربي الذي يظهر فيه الإلحاق على شكل جُمل اعتراضية أو نعت أو “إتباع” صوتي وغير ذلك. بينما يدخل الفصل الثالث إلى مقاربات أكثر تبياناً لعلاقة كتابة الخطيبي بالنظرية التفكيكية، وورد بعنوان “النهايات المفتوحة وصياغة العالم” وتوزّعت مباحثه على: التحوّل من النسق إلى الاختلاف، وتكافؤ الهامش والمركز في النص، ومحو الفواصل إثبات فاعلية الآخر المخفيّ في الذات. ومما سيتبين من صيرورة البحث أن (الذاكرة الموشومة) نص كُتِب طبقاً لمفهوم “التفكيكية” حول “الكتابة الجديدة”، والأجدر بدراسته أن تكون وفقاً للمنظور ذاته.
لكن قبل ذلك ينبغي أن تتضح ما هي الوشائج التي تجمع الخطيبي مع الأدب العربي، وهو الذي يكتب مؤلفاته بالفرنسية. ثم أي الأدبين أحق به العربي أم الفرنسي؟ ما هو بناؤه الفكري، ونهجه الأدبي؟
هذا ما سيتم الكشف عنه ابتداءً من التمهيد وحتى آخر مباحث هذه الرسالة.

 

Significant paths and semantic scattering in the autobiographical literature The Tattooed Memory by Abdul Kabir Al-Khatibi as a model a deconstruction study


This work is an applied study of the method of deconstruction in writing the autobiographical literature “The Tattooed Memory as a Model” by Abdel Kabir Al-Khatibi. Al-Khatibi’s biography was chosen because he applied procedural deconstruction statements in writing his biography, such as the concept of impact, appendix, scattering of significance and poetry as a penetration strategy for fixed written forms and other deconstructive concepts on the basis of which the chapters and investigations of the message were divided. Deconstruction has benefited from existential philosophy, which says: the primacy of existence over essence, and this argument has been transformed from the philosophical field to the critical field by dropping its idea on writing and pursuing meaning. Just as the subject in existential philosophy, according to the aforementioned saying, is still formed from the outcome of its practices, and it is on this basis an incomplete essence or essence until it stops at the last moment in which being ends, so the meaning remains postponed as a result of its openness to the multiplicity of readings and the multiplicity of patterns that occur due to the infinity of difference between Functions whose meaning is generated through their juxtaposition. This critical philosophy does not take into account the so-called “signified” as there is no eternal affinity between any signifier and signified, but rather replaced the concept of signified with the significance of the effect, which is two-polar. Functions, and the second is that each signifier has a special effect and self-understanding for the recipient, and thus there is no longer one agreed upon meaning, but rather the meaning is multiple with the multiplicity of readings. This is what the pioneer of deconstruction Jacques Derrida calls the written system, as the text is born on paper without being preceded by an implicit intention before the act of writing. It is the emergence of the text during the act of writing, and this concept of writing was referred to by Friedrich Nietzsche by saying: Beware that he is thinking now that he will tell a lie! This is a level of culture that entire peoples have spoken. So, the value of writing in the deconstructive sense is that it produces non-fabricated texts, but its output appears far from filtering consciousness and fading the mind, which tempted Abdul-Kabir Al-Khatibi to take this writing strategy as a way to write his autobiography.