أ.م. د تغريد عبد الأمير
كلية العلوم الاسلامية – قسم اللغة العربية
إن لكلّ شيء في هذا الكون علة وسبب لوجوده وتكونه. وفي فضاء الإبداع يأتي المبدع وينكر علة الشيء المعروفة ويأتي بعلة أدبية طريفة ومختلقة تدهش المتلقي وتستهويه لذلك عدّ من الفخاخ البلاغية التي تصطاد استجابات الاستحسان من الجمهور. وعُــدّ عبد القاهر الجرجاني أول من أشار إلى هذا اللون البلاغي في أسرار البلاغة. وقد أرجع هذا الاختلاق الأدبي في غرض المديح لأمر فيه تعظيم للممدوح وبذلك يزداد المعنى جمالا وشرفا. ومن ذلك قول المتنبي:
لم تحك نائلك السحاب وإنما حمّت به فصبيبها الرحضاء
وأصل الكلام أنه أراد تشبيه جود الممدوح بالغيث ولكنه بالغ في المعنى فادعى أن جود الممدوح لا يقاس بالغيث , فصبيب السحاب هو بسبب الحمى التي أصابتها حسدا للممدوح , فتضافر أسلوبي الاستعارة مع التعليل الأدبي أنتج خطابا فنيا مؤثرا يحصد ميل المتلقي (الممدوح) وربما (عطائه) , ومنه قول الشاعر:
ما قصر الغيث عن مصر طبعا ولكن تعداكم من الخجل
ولا جرى النيل إلا وهو معترف بسبقكم فلذا يجري على مهل
فالمبدع ينكر سبب قلة الأمطار في مصر بحسب الأسباب الطبيعية وإنما أراد أن يتقرب من الممدوح فيجعل علة ذلك الخجل من الممدوح على سبيل التخييل ؛ لأنه لا يريد أن يجاريه في الجود والعطاء وهو السبب الأدبي لجريان النيل البطيء أيضا .
ومنه ما قاله الشاعر:
ولا يروعك إيماض القتير به فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
فلم يتأول الشيب على ما جرت به العادة من بياض الشعر ولكن ما به هو نور العقل والأدب
ومنه ما قاله أبو إبراهيم بن احمد العامري في مرض الوزير الصاحب بن عباد :
وحوشيت أن تعتري بجسمك علة ألا إنها تلك العزوم الثواقب
فالذي فيه ليس من العلة والمرض وإنما مما يحمله من عزيمة ثاقبة وذهن متوقد , وهذا من شأنه أن يعزز التفاعل بين المتكلم والمخاطب بفضل ما يولده من مشاعر الرضا والانتشاء , ومن هنا يكتسب هذا النوع البلاغي أهميته السيكولوجية , من ذلك ما جاء ضمن موضوع الغزل من مساءلة الأرض عن سبب التبرك بترابها في قول الشاعر :
سألت الأرض لم كانت مصلى ولم جعلت لنا طهرا وطيبا
فقالت غير ناطقة لأني حويت لكل إنسان حبيبا
فصاغ العلة الأدبية ضمن فضاء استعاري إبداعي مؤثر إذ عبّر عن علة جعل الأرض مصلى وطهور بادعاء إجابتها بغر لسان لأنها تحوي الأحبة ليوقع المخاطب في فخ الاستحسان لهذا الخطاب .
ومنه قول محمد بن وهيب :
إذا ما سموت إلى وصله تعرض لي دونه عائق
وحاربني فيه ريب الزمان كأن الزمان له عاشق
إذ إنه أثبت محاربة الزمان في محبته ثم ادعى أن الزمان يزاحمه في عشق محبوبه على سبيل التشخيص الذي يضفي الحياة على الزمان وكأنه عاقل يعشق ويزاحم الشاعر في حبه .
من ذلك قول الشاعر :
لا تنكروا خفقان قلبي والحبيب لدي حاضر
ما القلب إلا داره دقت له فيها البشائر
فخفقان القلب يحدث بسبب وجود الحبيب الذي اتخذ من القلب بيتا له من باب التشبيه البليغ , وليس بسبب علة معروفة , فاختبأت العلة الأدبية خلف قناع من البيان المؤثر لينصب فخا يثير المخاطب ويجذبه , من ذلك قول الشاعر :
أرى بدر السماء يلوح حينا ويبدو ثم يلتحف السحابا
وذاك لأنه لما تبدى وأبصر وجهك استحيا وغابا
فمنظر البدر وهو يختفي تارة خلف السحاب ويظهر تارة أخرى ظاهرة طبيعية لها علتها المعروفة ولكن الشاعر أنكرها وأعطى علة أخرى تؤثر على المحبوب على شكل صورة فنية استعارية تصور البدر وهو مختبئ خلف السحاب وعندما يبدو وينظر إلى وجه المحبوب يغيب خجلا من جمال المحبوب الذي يفوق جماله وهذا التعاضد الفني بين الاستعارة وحسن التعليل أكسب المعنى جمالا وظرافة , وبغض النظر عن مصداقية الخطاب من عدمه فإن اختلاق علة أدبية في مقام المدح أو الغزل وغيرهما من شأنه أن يجذب المتلقي الشاهد وحتى المفترض ويستحسنه
من ذلك استعارة الغيرة لقلب المحبوب في قلب الشاعر :
عاقبت عيني بالدمع والسهر إذ غار قلبي عليك من بصري
واحتملت ذاك وهي رابحة فيك وفازت بلذة النظر
فادعى الشاعر أن علة سهر العين ودمعها من غيرة القلب منها على المحبوب وبامتثاله لطاعة القلب عوقبت العين بالسهر والدمع وهذا فخ يثير عاطفة المخاطب ويستميله , وضمن هذا المعنى ما جاء في قول الشاعر :
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم من كثرة القتل نالها الوصب
حمرتها من دماء من قتلت والدم في النصل شاهد عجب
فقد ادعى الشاعر أن حمرة العين من دماء قتلاها وليس السبب هو مرض معين أصابها ثم يردف هذا تشبيه ضمني يزيد المتلقي قناعة فيما يعرضه الشاعر من حجة فنية إن صح التعبير ( والدم في النصل شاهد عجب ) فالمبدع أتى بعلة أدبية ناسبت الغرض المقصود
وإيجاد العلة الطريفة في الخطاب له تأثير في النفوس عبر ما ترسمه الأبيات الشعرية من لوحات فنية تتضافر فيها العناصر البلاغية من ذلك في مجال الوصف ما قاله ابن نباتة في وصف فرس :
وأدهم يستمد الليل منه وتطلع بين عينيه الثريا
سرى خلف الصباح يطير مشيا ويطوي خلفه الأفلاك طيا
فلما خاف وشك الفوت منه تشبث بالقوائم والمحيا
فقد صوّر الجواد الأسود وكأنه الليل من سواده وغرته البيضاء كالثريا , ويسري خلف الصباح مسرعا ليستمد منه ضياءه وبهاءه فتشبث بالقوائم والمحيا فكانت بيضاء رغم سواده ولا يخفى ما في ذلك من حسن إبداع وسلامة تكلف وفخ فني يوقع المتلقي في الإعجاب والتأثير .
من ذلك قول أبي التمام :
ربى شفعت ريح الصبا بنسيمها إلى المزن حتى جادها وهو هامع
كأن السحاب الغر غيبن تحتها حبيبا فما ترقى لهن مدامع
فالشاعر يرسم صورة الربى والنسيم والمطر والسحاب بريشة فنان تحمل حسن الإبداع وسلامة التكلف ولم يعلل سبب هطول الأمطار بكثرة من السحاب بظاهرة طبيعية معروفة وإنما بسبب أن هذه الربى تغيب حبيبا للسحاب فيها فكأنما تبكي عليه بمطر منهمر ولا ترقى لهن مدامع على سبيل الاستعارة المكنية والتشبيه المتضافرين مع حسن التعليل كأفخاخ بلاغية توقع بالمتلقي.
وعلى الرغم مما في الأمثلة من حسن وطرافة فإنها علل غير حقيقية ترمي إلى أن توقع بالمتلقي من أجل الاستحسان والإعجاب والتأثير فيه عبر ما تمتلكه من تقنيات خطابية بلاغية فاعلة، تقوم على أساس العاطفة والخيال وانجاز الوظيفة الكلية للخطاب، وعلى الرغم من ذلك لا يوجد هذا اللون البلاغي (حسن التعليل) في القرآن الكريم والحديث الشريف، مع وجود التخييل فيهما فإن الخطاب لايخلق عللاً غير حقيقية لتعظيم أمر وتصوير آخر .