الموازنة منهجاً في ضوء النقد النسوي

م. د. دعاء كميل ضيف الله
كلية التربية للعلوم الإنسانية/قسم اللغة العربية

تعد (الموازنة) من معالم النقد العربي القديم، وهي بأبسط تعريف لها ” المفاضلة بين شاعرين أو كاتبين، أو عملين أدبيين أو أكثر للوصول الى حكم نقدي ” ()، وتُدرج ضمنها أولى المواقف النقدية التي سجلها التاريخ من حكومة أم جندب وتحكيم النابغة حتى المؤلفات العربية منذ باكورة التدوين كمصنف الآمدي، وصولاً الى الدراسات البحثية المعاصرة. ولكثرة الجهود التي تم تقديمها بالاستفادة من معطياتها فقد استقرت مفرداتها بوصفها منهجاً بتفاصيل واضحة.
أما النقد النسوي؛ فهو مصطلح حديث وافد على الثقافة العربية. وعلى الرغم من أن تعريفه يتصف بالوضوح “النقد المنشغل بدراسة المرأة في الأدب ، سواء كانت كاتبة او مكتوبة” ()، لكنه لا يزال يشهد حتى الآن تطوراً في آليات اشتغاله، فيكون دمج (الموازنة والنقد النسوي) في منهج واحد مغامرة ، ما يشجع عليها إن أية رحلة بحثية ما هي كذلك. وهكذا سيعمد هذا المقال الى تأسيس نوع من الموازنة تخص النقد النسوي حصراً، ليتمكن الباحث في هذا المجال من السير وفقاً لطريقة محددة غير مرتبكة.
كان عمود الشعر هو المعيار الذي عقدت حوله الموازنة الأدبية في النقد القديم، أما أساس الموازنة فيتمثل بالبحث في التفاضل بين النصوص، وقد تم اعتماد الذائقة الشخصية للناقد آلة للموازنة (). ومن آليات الموازنة التي اعتمدها النقد القديم وأقرها النقاد في العصور اللاحقة التساوي الكمي بين المنتَجَين، فضلا عن التقارب النوعي، ففي حالة اجراء موازنة في ضوء النقد النسوي فإن الأمر ستكون له أبعاد أخرى، إذ أن النسوية التي انتجت هذا النقد تعتمد على حقيقة ايمانها بوجود سلطة قد تكون خفية أحياناً تعمل على تغييب الصوت النسوي في المنتج الإنساني المتنوع، وتسعى للبحث في أسباب ذلك. وهدف الموازنة يتمثل بفهم الأسباب الخفية وراء هذا الاختلاف في الحجم والنوع.
إن الموازنة حين يكون النقد النسوي ميداناً لها ستصبح بحاجة الى آليات جديدة تتلاءم والافكار التي يتبناها هذا النقد، وفي مقدمتها اعترافه بالتفاوت الكمي في الانتاج بين الجنسين، مرجعاً سبب ذلك الى إرادات ذكورية لم تمنح المرأة هامشاً مريحاً للتعبير، مثل ما فعلت مع الرجل. والمتبنى الثاني يتمثل في أن التقييم النوعي يعتمد على عمق الأنساق الظاهرة والمضمرة في النص.
ولا يذهب النقد النسقي بعيداً حين يندمج مع النسوية ليصدرا النقد النسوي، ولا يشذ البحث عن قاعدة النقد حين يلتجئ الى النص القديم بفلسفة معاصرة ذات سمة حداثية جديدة. وجواباً على إشكالية تطبيق النقد النسوي على نص لم يعاصر الفكر الفلسفي النسوي، نجد أن النقد كما يرى الدكتور سعيد المحنة ” موقف فلسفي في جوهره ، حيث ان الفلسفة موقف من الوجود والموجودات، فالناقد يصوغ نقده بمقتضى الموقف الفلسفي الذي يتبناه، ولا يشترط أن يكون الناقد على وعي بالفلسفة التي يرى بها الوجود، ولا يشترط به أيضاً أن يكون على وعي أن نقده ينضوي تحت فلسفة لها نظرة اشمل واعم، بل ان الوعي يأتي متأخراً عن الموقف السلوكي الذي يقفه إنسان ما من الوجود، ومن الموجودات، ومما يبدعه الانسان ، ومنه الأدب ، فالشاعر يبدع شعره ، والناقد يأتي بعده ليميز بين الجيد والرديء ” ().
إذن نحن أمام ثلاثة مواقف نقدية تربط الموازنة بالمرأة، يمكن عرضها كالآتي:
المرأة الشاعرة عاطفية: ومرجعها الى صورة تم تنميطها، واستقرت في الذهن عن عاطفة المرأة الغالبة على خصائصها الأخرى، وهذه موازنة حكمها مسبق، ففي حديث منسوب إلى علي بن أبي طالب (ع) أنه سُئل عن السبب في أفضلية وصف أم معبد للرسول (ص) ، فقال ” لأن النساء يصفن الرجال بأهوائهن فيجدن في صفاتهن”. () نجد هنا رأياً قيّم ووازن على أساس رؤية الآخر القائمة على المرجعية النفسية للمرأة. ويلاحظ في هذه الرواية أن الحكم إيجابي بشأن المنتج النسائي. وهذا الحكم يتبعه الموقف النقدي القديم والحديث من المرأة الشاعرة / الراثية ، فهي قد أجادت في هذا الفن لأنها وظفت عاطفتها (). وقد وجد المهتمون بالشعر النسائي القديم أن أكثره جاء في غرض الرثاء، وأحالوا ذلك الى السبب الأبسط لدى المحلل الفحل، إنه الغرض الأمثل للتعبير عن الإحساس الرقيق والعواطف الجياشة، فـ ” طبيعي أن تكون النساء أشجى الناس قلوباً عند المصيبة، واشدهم جزعاً على هالك، لما ركب الله – عز وجل- في طبعهن من الخور وضعف العزيمة ” ()، وبذلك اغلقوا الطريق على النقد النسوي ليقيم شعرهن، فهو افضل لأنها أنثى اقرب الى العاطفة من ال(هو) الممتلك لرجاحة العقل والمنطق. المرأة إذن انطلقت في قولها من العاطفة وحازت رضا النقد لأنها عبرت عن هذه العاطفة، ولم تضمن طيات قولها الشعري ما يتنافى مع الأعراف المجتمعية.
الغيرة للجنس: والى ذلك اشار الدكتور زكي مبارك في مصنفه الذي تعمق في موضوعة الموازنة وتقصى أنواعها وأطرافها ، رفض الاحكام التي توازن بها المرأة شعر الآخر/ الرجل، ويكون الحكم موضوعياً أكثر منه فنياً، تدافع فيه المرأة / الناقدة عن صورة النساء في الشعر أخلاقياً واجتماعياً. وتوقف في حكمه هذا عند النقد المروي عن سكينة بنت الحسين () .
الموازنة التي يريدها البحث بحسب النقد النسوي ليست مفاضلة بين جودة انتاج شواعر وشعراء، وإنما هي كما فسر أدونيس ما قامت عليه موازنة الآمدي بأنها “ليست (الموازنة ) مقارنة بين شاعرين ، بقدر ما هي مقارنة بين مفهومين أو نظرتين للشعر”() ، بمعنى آخر، مفهومين ونظرتين للحياة واستجابة الطرفين التي نقلها هذا الشعر، وفي موضوع البحث تكون الموازنة بين قدرتهما على تشفير نصوصهما، لما تقدم من أن الشعر النسوي عنوان يستبطن رسائل ثقافية في أصل انتاجه.
المصادر:.