أ.م. مؤيد جبار حسن
مركز الدراسات الاستراتيجية
نجحت العولمة بجعل العالم “قرية صغيرة”، كما يقولون، وقد حملت معها الكثير من الإيجابيات والسلبيات. وإذا أردنا الانصاف، فلا ينفع أن نركز على إحداها ونهمل الأخرى. إن للدول كما للأفراد الكثير من الأسرار والخبايا، التي لا يعرفها سوى مجموعة قليلة من أصحاب الشأن، ويقع على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على سريتها، وإبقائها طي الكتمان. لكن بين الفينة والأخرى، وعلى حين غرة، يظهر هناك من يرفع السرية عن تلك المعلومات، ويظهرها للعلن، لتأخذ بالانتشار لا في دولته فقط، وانما في جميع أرجاء العالم. وهو ما يضر بمصلحة تلك الدولة، ويهدد أمنها القومي، ويؤذي سمعتها كدولة محترمة.
ويبدو أن الأمر يتناسب طردياً مع حجم الدولة ومكانتها في المجتمع الدولي، فعندما تكون الدولة بحجم الولايات المتحدة الامريكية، مثلا، يكون للفضيحة وقع الصاعقة على العالم. وبالفعل، كانت قد تسربت معلومات عن فضائح كثيرة تخص الولايات المتحدة الأميركية منذ حادثة (ووترغيت) ، التي أدت الى أول استقالة لرئيس أمريكي في تاريخ البلاد. كما تم إدانة مسؤولين كبار في البيت الأبيض، وأجهزة أمنية أخرى في البلاد. وفي حيثيات القضية تم اكتشاف أجهزة تنصت، أتهم بوضعها الجمهوريون في مكاتب الحزب الديمقراطي، في مبنى ووترغيت بواشنطن، وبواسطتها تم تسجيل ما يقرب من خمسة وستين مكالمة لأعضاء الحزب. وتصاعدت القضية إلى أن طالت أشخاصاً على علاقة بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وانتهت بإدانة آخرين بتهمة التجسس والسرقة (1).
ولعل الكثيرين يتذكرون فضيحة الانتهاكات المرتكبة ضد السجناء العراقيين في سجن أبو غريب، أو ما يسمى بـ ” تقرير تاغوبا” (2) . ومما جاء في رسالة هيومن رايتس ووتش إلى مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس في 3 آيار2004: “الأفعال الموصوفة في التقرير الذي أعده الميجور جنرال أنطونيو تاغوبا، في أعقاب التحقيق الذي أجراه – ومن بينها الضرب، والإيذاء، والإذلال الجنسي المتكرر، والتهديدات، ومحاكاة الاغتصاب، ومحاكاة عملية التعذيب بالصعق الكهربائي – كل هذه الأفعال تمثل انتهاكاً لاتفاقيات جنيف، بل وقد تشكل جرائم حرب؛ وهي تنافي بوضوح ما تعهد به الرئيس بوش في 26 يونيو/حزيران 2003، من أن الولايات المتحدة لن تقدم على “تعذيب” المشتبه في تورطهم في الإرهاب، أو معاملتهم بأساليب “قاسية وغير عادية” من أجل استجوابهم، فضلاً عن تناقضها مع السياسة المفصلة بشأن عمليات الاستجواب، التي أوضحها المستشار القانوني العام لوزارة الدفاع ويليام هينز. ولا ينبغي أن يكون هناك الآن مجال لأي شك، كما سبق أن أوضحنا مراراً وتكراراً، في أن مثل هذا السلوك يضر بسمعة الولايات المتحدة، وقدرتها على تعزيز سيادة القانون في مختلف أنحاء العالم” (3).
لم يكد ينسى العالم ، فضيحة السجون الأمريكية حول العالم ، حتى ظهرت فضيحة أخرى من العيار الثقيل، على يد “جوليان أسانج”، وهو صحفي وناشط ومبرمج أسترالي، أسس موقع ويكيليكس، وهو يرأس تحريره يزعم أسانج أن موقع ويكيليكس “يهدف إلى نشر الأخبار والمعلومات المهمة إلى الجمهور من خلال نشر وثائق سرية، لا سيما حول الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق”. وخلال سنوات نشر أسانج مئات الآلاف من الوثائق السرية الامريكية ، فاصبح طريد القانون الأمريكي (4).
جاءت أكثر تلك الوثائق عن طريق تشيلسي ماننغ، التي كانت تعمل محللة بيانات في المخابرات الحربية الأمريكية. وكشفت هذه الوثائق الحربية عن قتل الجيش الأمريكي مئات المدنيين دون الإبلاغ عن ذلك أثناء حرب أفغانستان. كما كشفت وثائق تتعلق بحرب العراق، منها مقتل 66 ألف مدني، أي أكبر من الرقم الذي أشارت إليه التقارير التي ظهرت قبل نشر وثائق ويكيليكس. كما كشف التسريبات عن تعذيب السجناء على أيدي القوات العراقية. وتضمنت أيضا 250 ألف رسالة من دبلوماسيين أمريكيين أشارت إلى أن الإدارة الأمريكية أرادت الحصول على معلومات “شخصية وحيوية” من بينها بصمات الأعين، وعينات الحمض النووي، وبصمات الأصابع، لمسؤولين مهمين في الأمم المتحدة (5).
لم تنته رحلة أمريكا مع التسريبات والفضائح ، ففي عام 2013 قام إدوارد جوزيف سنودن، وهو تقني أمريكي، وعميل موظف لدى وكالة المخابرات المركزية يتسريب مواد مصنفة على أنها سرية للغاية من وكالة الأمن القومي، منها (برنامج بريسم) إلى صحيفة الغارديان، وصحيفة الواشنطن بوست (6).
لم تنته رحلة أمريكا مع التسريبات والفضائح ، ففي عام 2013 قام إدوارد جوزيف سنودن، وهو تقني أمريكي، وعميل موظف لدى وكالة المخابرات المركزية يتسريب مواد مصنفة على أنها سرية للغاية من وكالة الأمن القومي، منها (برنامج بريسم) إلى صحيفة الغارديان، وصحيفة الواشنطن بوست (6) .
أما عن ماهية برنامج بريسم فهو اسم رمزي لمشروع تجسس كبير تديره وكالة الأمن القومي الأميركية، وتسرب خبره الى صحيفتي واشنطن بوست، والغارديان البريطانية، وأقرته الإدارة الأميركية، وأدانت الكشف عنه، في حين أنكرت كافة شركات الإنترنت الكبرى صلتها به. يعمل البرنامج على استخراج بيانات المستخدمين المخزنة ضمن أجهزة خوادم شركات إنترنت أميركية كبرى مثل غوغل وفيسبوك وآبل وياهو وغيرها. وقد اعترف الرئيس الأميركي الاسبق باراك أوباما، بوجود مثل هذا البرنامج، لكنه دافع عنه معتبراً جزءاً من استراتيجية “مكافحة الإرهاب” إلا أنه أكد أن جمع البيانات الهاتفية من جانب السلطات الأمنية لا يتضمن أسماء ولا مضامين المكالمات، وأن رقابة مواقع الإنترنت لا تسري على المواطنين الأميركيين أو من يعيشون في الاراضي الأميركية (7) .
وفي أخر تلك التسريبات التي آلت الى فضائح إعلامية تتناقلها المحطات الإخبارية، حدثت في نيسان 2023، قام بها عسكري يدعى “جاك تيكسيرا” يعمل في احدى القواعد الجوية الامريكية ، في قسم المعلومات ، مما سهل إليه الوصول الى تلك الوثائق. كانت تلك الوثائق تتضمن معلومات استخبارية سرية تتعلق بالحرب بين أوكرانيا وروسيا، وكذلك حول الصين وحلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل وكوريا الجنوبية وكندا (8)، مما وضع واشنطن في حرج شديد، ليس أمام غرمائها فقط وانما أمام حلفائها من باقي الدول . كان جوليان أسانج وإدوارد سنودن يبرران فعلهما بمقولات مثل “الشفافية”، و”فضح أدوات الرقابة المفرطة للحكومات”، لكن مع (تيكسيرا)، قام الشاب العسكري بنشر الوثائق بين مجموعة من أصدقائه من هواة الألعاب، دون أن يعي أنها يمكن أن تضع بلاده في حرج أمام الحلفاء والأعداء.
خلاصة القول أنه برغم ما تحيط به الدول نفسها من أسوار وحصون مادية وإلكترونية، يتسرب كم من المعلومات السرية بين فينة وأخرى، مما يجعل مصداقية الأنظمة على المحك، إذ يسقط عنها ثوب المثالية والأخلاق، ليبدو الوجه الحقيقي للسياسة، حيث لا عداوة دائمة او صداقة دائمة، فقط هناك مصالح، والأخيرة ليست دائمة أيضاً.
كذلك تؤشر التسريبات الى خلل كبير، فالتسريب الأخير قام به عسكري برتبة بسيطة، وفي قاع التراتبية الهرمية لطياري الحرس الوطني، كما تصفه “نيويورك تايمز”، إلا أن تمكن من الوصول إلى مثل هذا النوع من المعلومات ، لكن يبدو ان الحصول على هكذا معلومات لا يتطلب الكثير، سوى العمل في دائرة استخبارية داخل المؤسسة العسكرية او الأمنية ؛ والخضوع لما يسمّى اختبار “التحقق من الخلفية”، وتوقيع تعهد بعدم إفشاء أي من المعلومات قبل بداية الخدمة وبعد انتهائها.
وهنا يجب على دول العالم كافة، ومنها دول العالم الثالث، وما يهمنا منها بلدنا العراق، أخذ الحيطة والحذر وأقصى درجات التحرز الأمني حيال قضايا أمن المعلومات، سواء من ناحية الحفاظ عليها من التسريب او السرقة والاختطاف. يتحقق ذلك عبر الاعتناء باختيار العنصر البشري المناسب الكفوء، فهو العنصر الأساس في العملية، وتطوير الكوادر، وتوفير الوسائل التي تساعد في نجاح العمل وتكامله. كما من الضروري حين الاستعانة بالخبرات او المعونات الخارجية، ترك فسحة من الخصوصية تحفظ فيها المعلومات الحساسة ، دون أن تكشف أمام الجميع ، وإن وثقنا في أمانتهم وحرصهم ونواياهم الطيبة. ومن باب حب الوطن يجب على جميع المواطنين الاعتناء بالأمن المعلوماتي الخاص بهم وبالدوائر الحكومية التي يعملون بها وبالنشاطات التي يتولونها(9).
المصادر:
(1) تسريب الوثائق الأمريكية: ما أبرز التسريبات التي شهدتها الولايات المتحدة؟، قناة BBC ، الرابط: https://www.bbc.com/arabic/world-65279601
(2) لقراءة التقرير كاملا باللغة الإنجليزية، أنظر: https://irp.fas.org/agency/dod/taguba.pdf
(3) لقراءة البرقية كاملة ادخل على الرابط التالي في موقع هيومن رايتس ووتش، الرابط: https://www.hrw.org/legacy/arabic/docs/2004/05/03/usint10688_txt.htm ، كما يمكن الاستزادة عن ردة فعل تلك المنظمة عبر الاطلاع على التقرير التالي : https://www.hrw.org/reports/2006/ct0406/ct0406summaryar.pdf
(4) للمزيد من التفاصيل عن جوليان اسانج ، انظر فيديو قناة فرنسا : https://2u.pw/sA7i5D
(5) للمزيد أنظر كتاب اسرار وكليكس ، الرابط: https://2u.pw/Mn6cOk
(6) لمعرفة السبب الذي دفع سنودن الى تسريب هذه المعلومات ، أنظر تقرير قناة العربي على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=R_hYTy61JlQ
(7) قناة الجزيرة ، الرابط: https://2u.pw/oCr1wZ
(8) قناة بي بي سي ، الرابط: https://www.bbc.com/arabic/world-65262876
(9) أنظر نصائح جهاز المخابرات العراقي للمواطنين بهذا الخصوص: https://www.inis.gov.iq/ad-info.html