د. علي كاظم محمد علي المصلاوي
كلية التربية للعلوم الانسانية
الأَدب الأَندلسي هو جزء من الأَدب العربي، وهذا شيء معروف، ولكن حين نمضي في تقسيم الأَدب العربي على عدة عصور: عصر ما قبل الإسلام، والعصر الإسلامي، والأموي، والعباسي وصولاً إلى العصور المتأخرة فإننا لا نجد الأَدب الأَندلسي قبالة الأَدب العربي على الرغم من أنَّه جزء منه.
وبحسب الظاهر فإن تلك التقسيمات تعتمد نظام الحكم أساساً لها، من باب أنَّ مجمل الأَدب مرتبط بسياسة النظام الحاكم، ولعلنا لم نكن نسأل أَنفسنا عن مدى صحة وثبات هذا الرأي، بل لم يكن يطرح علينا بصيغة الانكار، وإنما بصورة التسليم بما قالته بعض الدراسات وأصحابها من دون نقاش أو رأي جاد.
في كل عام أسأل طلبتي: هل كل أدب مرتبط – بالضرورة – بالنظام الحاكم، يقوى بقوته ويضعف بضعفه؟ وهل تمثل نصوص الأَدب سواء أكانت شعرية أم نثرية النظام الحاكم؟ وهل أن جميع الشعراء مرتبطون بذلك النظام وليس من أحد خارج عنه، متآلف معه، أو مناهض له؟ وبعدها استحضر لهم أمثلة وأسماء لم يكن نتاجها يجري مع النظام الحاكم “المركز”، بل كان بعضها -وما زال- “مهمشاً”.
لم يخرج الأَدب الأَندلسي عن كل ما تقدم. أي ان العقلية التي منهجت أدب الشرق العربي منهجت أيضا أدب الأَندلسيين، وجعلته في عصور كان لنظام الحكم اليد الطولى فيها، ولكن صيغته العامة بدت – برعم ذلك- مرتبطة بالمكان، ومنسوبة إليه.
ولنا هنا أن نسأل: لماذا أسند هذا الأَدب للمكان الجغرافي “الأَندلس” خلافاً لسواه من آداب العصور الأخرى؟ أجيب -بشكل موجز- إنَّ السبب عائد لارتباط هذا الأدب بالمكان، وهو متأت من خصوصيته المؤثرة في أغلب نماذجه الشهيرة.
فالأَندلس التي تعني إسبانيا والبرتغال اليوم كانت وما زالت من أجمل بقاع الدنيا، هي الجنة بعينها في تصوير ابن خفاجة الأَندلسي الذي جسَّد ببراعة عشقه لجمالها حين قال في أَبياته الشهيرة :
يَا أهلَ أَندَلُسٍ لِلَّهِ دَرُّكُمُ * ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ
ما جَنَّةُ الخُلدِ إِلّا في دِيارِكُمُ * وَلَو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختارُ
لا تَختَشوا بَعدَها أَن تَدخُلوا سَقرا * فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ
والأَندلس دائمة الخضرة، فسميت لذلك “بالجزيرة الخضراء”، وقد امتازت بكل شيء جميل، وانعكس هذا الجمال البيئي -بعد حين- على أحاسيس الشاعر الأَندلسي ومشاعره، ومن ثم تجلى بشكل واضح وفياض في شعره الذي كان صورة زاهية له. كما انعكست البيئة الجميلة، والحياة المترفة الباذخة، والتحرر الى شيوع الغناء، والطرب الذي ألجأ بدوره الى ظهور الموشحات الأَندلسية وشيوعها بشكل جعلها قبالة القصيدة العمودية بعد أن تمددت على أغراض الشعر كافة.
ومن ناتج المكان أيضا ما جرى من حروب غيرت معالم الحياة المترفة للأندلسيين، إذ واجهوا تحديين: الأول داخلي متمثل بالمرابطين ومن ثم الموحدين الذين عبروا البحر من المغرب واستولوا على نظام الحكم فيها، وأصبحت الأَندلس ولاية تابعة لهم. والتحدي الآخر تمثل بمسيحيي أُوربا الذين تكاتفوا في سبيل اقصاء المسلمين من الأَندلس حتى أخرجوهم منها سنة 897هـ .
في ظل هذا كان الدمار والخراب قد حلَّ بالمدن الأَندلسية، وأخذ الشاعر الأَندلسي يرثي مدنهُ تارة، والأَندلس عامة، ويستصرخ، ويستنهض المسلمين وحكامهم ممن يُعتقد به العزم على تخليص البلاد من عدوهم القاهر. فكان ما قاله ناتجاً بيئياً مثَّل ظاهرة بارزة لم تشع في المشرق، لأنهم لم يتعرضوا لمثل ما تعرض له الأَندلسيون، وما عانوه من ويلات الحروب وما تخلفه من أحزان وآلام. وعندما خسر المسلمون الأَندلس واستيأسوا من العودة إِليها واستعادة مجدهم الذي أفل وولى نعتوا الأَندلس “بالفردوس المفقود” الذي غادروه وغادرهم من غير رجعة.
تلك المسببات جعلت الدارسين والباحثين ينعتون هذا الأَدب منسوباً إلى المكان الذي نشأ به، وترعرع فيه، ومنه جاءت خصوصيته، أو قل هويته التي لا يمكنه التنصل منها، وإن كان ينتمي الى الأم التي غذَّته حتى فطم ولما يزل منها -أَعني المشرق العربي- حضارة وتاريخاً وأدباً.
ويمكن أن نذهب الى أبعد من هذا التفسير- ولربما تمنى بعض الدارسين حدوثه – حين نفترض أنَّ عصور الأَدب الأَندلسي جاءت متوافقة مع عصور الأَدب العربي بمعنى أنَّ العصر الأموي الذي بدأ به الوجود العربي في الأَندلس انتهى بانتهاء الدولة الأموية في الشام، ويبدأ حكم العباسيين في المشرق ومثله في الأَندلس حتى ينتهي بسقوط بغداد، وكذلك العصور المتأخرة. ومن ثم الذي يدرس الأَدب الأموي في المشرق يدرسه في الأَندلس أيضاً، وإذا درس الأَدب العباسي في المشرق درسه في الأَندلس أيضاً، وهكذا. وبهذا الافتراض يمكن أن يكون الأَدب العربي واحداً موحداً، ويكون الأَدب الأَندلسي جزءاً من الأدب الأموي والعباسي والعصور المتأخرة، ذائباً فيها، ولا يملك خصوصية ما.
أقول – حتى على افتراض هذا الأمر الذي لم يكن يوماً ما، ولم يحدث – يظل للمكان الأَندلسي وأدبه نكهة خاصة لا يعرفها إلا المختص، ومن الظلم والاجحاف بعد ذلك لو تعاملنا معه من دون خصوصيته المكانية التي وفرت له سمات خاصة. نحن أيضاً لا نزال نشعر بالحنين والشوق للمكان الأندلسي، وكأنَّ أرواح أسالفنا ترفرف على ذلك المكان الأثير، ولا تريد مغادرته على الرغم من مئات السنين.