(علم لغة النص)

د. مؤيد جاسم محمد
كلية العلوم الاسلامية/ قسم اللغة العربية

لم يلق مصطلح علم لغة النصّ توحيداً من الجانبين لا عـند منظريه ولا عـند مـترجميه () ، فـتعددت مـفاهيمه ، فـكلٌ نـظر إلـيه مـن زاويته وعَـرّفَهُ بـطريقتـه ,وارتكز علم لغة النصّ على فكرة أنَّ النصَّ يُعدُّ الـموضوع الـرئيس فـي الـتحليـل والوصف اللغوي ، فقد أدرك اللغويون أنَّ الجملة التي كانت تُعدُّ أكبر وحدة لغوية لم تعد كافية لكل وسـائل الفهم اللـغوي ، فالفهم الحقّ للظاهرة اللسانية يوجب دراسة اللغة دراسة نصّيّة ، من حيث إنّ البحث يبقى محصوراً في أبنية النصوص وصياغتها مع إحـاطته بالـعلاقات الاتـصالية والاجـتماعية والـنفـسية الـعامة (), ومـن ثـم يـخضع تـوظيف الـنصوص – فـي الـدراسـات الـنصّيّة – لـتناول الشـروط الاتـصاليّة ؛ لأنَّ الـتشخيص المناسـب لـهذه الـوحدات الأسـاسـية يتطلب وسـائل أخرى غير تلك التي يمتلكها الفرع اللغوي ، يقول فان دايك : (( يبدو في الواقع أنَّ الحقائق الأكثر تـمييزاً للنصوص أنها توجد أساساً في المستوى الدلالي ، وكذلك في المستوى التداولي )) () .
والمتأمل في علوم البلاغة يجدُ ثمة علاقة وطيدة بين هذه العلوم ، وعلم لغة النصّ، وقـد صرّح عدد من الباحثين بأنّ البلاغة هي السـابقة التاريخية للسـانيّات النصّ () , ومن هؤلاء (فان دايك) إذ يقول : (( إنَّ البلاغة هي السابقة التاريخية لعلم النصّ إذا نحن أخـذنا فـي الاعتبار توجهها العام ، الـمتمثل فـي وصف النصوص ، وتحديد وظائفها المتعددة ، ولكننا نؤثر مصطلح علم النصّ ، لأنَّ كلمة بلاغة ترتبط حالياً بأشكال أسلوبية خاصة ، كما ترتبط بوظائف الاتصال العام ووسائل الإقناع )) ()، وكذلك أرجع (بوجراند) البدايات الأولى للدراسـات النصّيّة إلى العلوم البلاغية التي سادت العصور الكلاسيكية القديمة () ,ويشير الدكتور صلاح فضل إلى أنَّ (فان دايك) هو المؤسس لعلم لغة النصّ()، وعلـى مـا يـبدو أنّ إرهاصات هـذا الـعلم بـدأت بـمحاولة (زليج هاريس) عـام (1952م) التي تُعَدُّ من أهم المحاولات الجادة التي أدت إلى نشأة هذا العلم عندما قـدّم منهجاً لـتحليل الخطاب سـواء أكـان مـنطوقاً أم مـكتوباً ، اسـتعمل فيه إجراءات اللسـانيّات الـوصفيّة بهدف اكتشـاف بنية النّصّ ، في دراسـتين مهمتين تحت عنوان (تحليل الخطاب)()، ولـكي يتحقق هـذا الهدف رأى هـاريس أنَّه لا بدَّ من تجاوز مشكلتين وقعت فيهما الدراسات اللسانية (الوصفية والسلوكية)().
الأولى : قصر الدراسة على الجمل والعلاقات فيما بين أجزاء الجملة الواحدة .
والثانية : الفصل بين اللغة والموقف الاجتماعي ، مما يحول دون الفهم الصحيح .
وترى ليندة قيّاس أنّه على الرغم من أنَّ هاريس نبّه على العلاقة بين النصّ وسياقه الاجتماعي ، إلا أنَّ الانطلاقة مع السِّياق الثقافي أكثر ضرورة لفهم اللغات والثقافات () ، وقد أخذ فيرث هذا المفهوم فيما بعد وطوّره () ، على حين أرجع الدكتور سعيد حسن بحيري بداية البحث النصّي بشكل عام إلى رسالة ( I.NyE ) التي قدمت أطروحتها للدكتوراه عام (1912م) ().
وقد عرفت الدراسـات النصّيّة بعد ذلك (في السـبعينات) مزيداً من التطور والضبط المنهجي ، ولاسيما على يـدي (تـون أ.فان دايك) مما جعـل بعض اللسـانيين يـرى فيه المؤسس الحقيقي لعلم لغة النصّ, وقد ضمَّن فان دايك أفكاره وتصوراته لأسـس و مبادئ هـذا العلـم كـتابـاً يحمـل عـنـوان ( بعض مظاهر نحو النّصّ) aspects of Text grammar) some), مع الإشارة إلى أنَّ فان دايك لم يفرِّق في هذا الكتاب بين النصّ والخطاب ، ولم يتدارك ذلك إلا نحو سـنة (1977م) في مؤلف آخر بعنوان ( النصّ والسِّـياق), ويقترح تأسـيس نحو عـام للنصّ يأخذ بالحسبان كل الأبعاد التي لها صلة بالخطاب بـما في ذلك الأبعاد البنيـوية والسِّـياقية والـثقافية وهـو الأمر الذي جسـدهُ فيما بعد في كتاب مهـم بعنوان (عـلم النّصّ مدخل متـداخل الاختصاصات ) () .
ولقد عاصر فان دايك العديد من اللسانيين الذين ألفوا في لسانيّات النّصّ أمثال ستمبل و جلسرون و هـارفج و شـميت و دريـسلر و برنكر ()، غير أنَّ الدراسـات النصّيّة لم تبلغ أوجها إلا مع اللساني الأمريكي (روبرت دي بوجراند )في الثمانينات من القرن العشرين ().
إنَّ علم لغة النّصّ لم يرتبط في نشأته – كما يذهب أغلب مؤرخي هذا العلم – ببلد معين ،ولا بـمدرسـة لـغوية مـحددة أو بـاتجاه محدد بـل إنَّ اتجاهات البحث فيه مرتبطة بكل الأعمال في مجال اللسانيّات ().
ويُعدُّ أهم ملمح لهذا العلم أنّه متداخل في صورة وثيقة مع علوم أخرى كعلوم الشعر والبلاغة والأدب والأسلوب والاجتماع والنفس وغيرها ().
والملاحظ أنَّ اتجاهات البحث في هذا العلم قد أخذت صوراً مختلفة (( فمرة يعتمد على مفاهيم علم اللغة الوصفي مع رؤية جديدة لأقطابه تضاف إليه لتعطي له ميزة خاصة ، ومرة يتكئ على مـفاهيم عـلم اللغة الوظيفي ، ومرة ثالثة يعتمد على علـم اللغة التركيبي ( البنائي )، وأخرى يعتمد على علم اللغة التحويلي ، إلى أنْ تشكلت مناهجهُ برؤية الخواص التركيبيّة والدلالية والاتصالية للنصّ المدروس وذلك يمثل صلب البحث النصّي)) (), فلسانيّات النصّ أو نحو النصّ نحو هجين على حدِّ تعبير روبرت دي بوجراند (), والدراسـات الـنصّيّة لـم تنشـأ من فراغ ، ولم تنطلق مـن الصفر المنهجي في عملية البحث اللساني ، وإنّما كان نحو الجملة أساساً لها()., فيمكن الـقول علـى نحو عـام إنه إلـى منتصف الـستينات مـن القرن الماضي كانت الجملة هي التي ينظر إليها على أنّها الوحدة الأساسية في النحو ، وأكبر ما يحاطُ به من وحدة قابلة للدراسة اللسانية(). فالنحو قديماً (( لا يتخطى المبنى الصرفي هبوطاً، ولا الجملة المفردة صعوداً ))().
وفي العصر الحديث ومـنذ أكثر من نصف قرن تقريباً أخذت إفرازات التغيير فـي أوربـا تـظهر فـي صور نـقدية جديدة ونـظريات مـتعددة تتلاحـق فـي سـرعة مذهلة(), فبعد أنْ وقفت جُلُّ البحوث اللسانيّة عند حدود الجملة ، ونظرتْ إليها على أنها الوحدة الكبرى للتحليل ، تطوّرَ البحث اللساني ، وأثبتَ محدوديّة هذا النوع من الدراسات ، وقصوره في تحليل اللغة () .
وقد لاحظ فان دايك أنَّ الجملة لا تتحقق هويتها إلا إذا كانت إلى جانب جمل وتراكيب أخرى ؛ لذلك فإنَّ محاولة وصف الكلام عِبر وصف الجملة هو إجراء غير مضمون النتائج ، وعليه فلا بدَّ من أنْ يكون موضوع الدراسة والوصف وحـدة لـغوية أشـمل ألا وهي النّصّ ()، وهـذا الانتقال مـن الجملة إلى النّصّ ليـس مـجرد تحوّل حجمي من وحدة صغرى إلى وحدة كبرى ، بل تحول في المنهج وإجراءاته وأدواته ().
وثمة أمور تكفلت تطور البحث اللساني من الجملة باتجاه النّصّ هي():
ظهور دراسـات لسانية نصّيّة في أوربا وأمريكا تركز على النّصّ كبنية كليّة لا على الجملة بكونها بنية فرعية ، وعلى هذا اجتذبت النصوص لسانيّات النّصّ ؛ لأنّها تهتم بالنّصّ وسـياقهِ وظروفهِ وفضاءاتهِ ومعانيهِ المتعالقة القبليّة والبعديّة ، فـضلاً عـن مـراعاة ظروف المتلقي وثقافتهِ ، وأشـياء أخرى تحيط بالنّصّ .
إنّ كثيراً من الظواهر التركيبية لم تُفَسرْ في إطار الجملة تفسيراً كافياً ومقنعاً ، وربما تغير الحال إذا اتجه الوصف أو الحكم على هذه الظواهر في إطار وحدة أكبر من الجملة ألا وهي النّصّ ، فالبحث اللساني للنّصّ أكثر شمولاً من البحث المصوّر في حدود الجملة .
الإحساس الطاغي بالوظيفة الاجتماعية للغة ، ومن هنا أدرك عـلماء اللسـان أنَّ اجتزاء الجمل يحيل اللغة الحيّة فتاتاً وتفاريق من الجمل المصنوعة الـمجففة أو الـمجمدة ، وذلك إشـارة إلـى شواهـد النحو والـبلاغة الـتي تأتي غـالباً مصنوعة أو منزوعة من سياقها ، مما يتنافى وعلم لغة النصّ .
تمرد بعض اللسانيين على الجملة ؛ لأنَّ الوقوف أمامها يمثل تحليلاً جزئياً بعيداً عـن كُليّة النّصّ ، وهذا النّصّ الذي لـم يعدْ تتابعاً مسلسلاً من الجمل ، ولكنه مبنى فريد قائم برأسهِ ، ولهذا فقد أوجب ( بايك ) أنْ يتسع مفهوم النحو ، ليصبح مكوناً من مكونات نظرية شاملة تفسر السلوك الإنساني .
إنَّ الجملة في النّصّ لا تفهم في حدِّ ذاتها ،وإنما تسهم الأُخرُ في فهمها ، وهو ما تمحورتْ حوله رؤية ( ميشيل مايير ) إلـى الجملة بأنْ لا وجود لها منعزلة عـن الاسـتعمال الـفعلي للغة ؛ فهي دائماً محتواة في سـياق للتلفظ ، وعليه فالجملة لا تتحقق و لا تكتسب هويتها إلا في إطار الخطاب أو السِّـياق ، فإذا أردنا دراسة النشاط اللساني لـدى الإنسان فلا بُدَّ من أنْ نتجاوز إطار الجملة لنهتم بأنواع النـسج النّصّي التي يحدثها المتكلمون في أثناء ممارستهم الكلامية .
إنَّ العوامل النفسية أوثق علاقة بالنصوص منها بالجمل .
إنَّ الأعراف الاجتماعية تنطبق على النصوص أكثر مما تنطبق على الجمل .
إنَّ النّصّ فعّال ، على حين نجد الجملة عناصر من نظام افتراضي .
إنَّ الجملة كيان قواعدي خالص يتحدد على مستوى النحو فحسب ، أمّا النّصّ فحقهُ أنْ يعرف تبعاً للمعايير النّصّيّة الكاملة .
إنَّ النصوص تشير إلى نصوص أخرى بطريقة تختلف عن اقتضاء الجمل لغيرها من الجمل .
إنَّ النـّصّ يُـنظر إلـيه ، ويتـم فهمهُ فـي صورة تـوالٍ مـن الوقائع والحالات المعلوماتية و الانفعالية والاجتماعية ، وهي عرضة للتغيير ، وهي في المقابل يجري النظر إلى الجملة بوصفها عناصر من نظام ثابت يُرى في حالة واحدة مثالية مفارقة للتطور .
إنَّ النّصّ تـجلٍّ لـعمل إنسـاني ، يـنوي به شـخص أنْ ينتج نصاً ؛ ويوجه السامعين به إلى أنْ يبنوا عليه علاقات من أنواع مختلفة وليست الجملة عملاً .
البحث عن سـُبلٍ لتوسـيع مجال الدراسـة اللسـانية ، فدراسة اللغة في ذاتها ولذاتها ، وإقصاء الدلالة والمعنى والـسياق ، عوامل أشـعرتِ الباحثين بـضيق مجال أبحاثهم والبحث عما هو أوسع .
التداخل المعرفي ، وانفتاح الدراسة اللغوية على الدراسات الاجتماعية والنفسية والفنية والإعلامية .
أزمة الاتجاهات النقدية ، والتوجه إلى علم اللغة بحثاً عن الحلول .

ونُظمُ مجاميع مـا سـلف إلـى اسـتخلاص ٍ مفادهُ أنَّ علم لغة النّصّ فرعٌ من فروع اللسانيّات يهتم بدراسة النّصّ بوصفهِ الوحدة اللسانية الكبرى ، وذلك بدراسة جوانب متعددة أهمها الاتّساق والانسجام والسِّياق النصّي وأثر المشاركين في النّصّ (المرسـل والمستقبل) وهـذه الدراسة تتضمن النّصّ المنطوق والـمكتوب على حـدِّ سـواء .